الاثنين، 7 ديسمبر 2020

الرسالة الأخيرة لمحمد بن عبد الكريم الخطابي

 الرسالة الأخيرة لمحمد بن عبد الكريم الخطابي



Film abdelkarim el khattabi | Mighis (أول فيلم مغربي لحرب الريف على الإسبان)

 Film abdelkarim el khattabi | Mighis (أول فيلم مغربي لحرب الريف على الإسبان)

مغيس هو أول فيلم سينيمائي في تاريخ السينما الأمازيغية ناطق باللغة الريفية من إخراج جمال بالمجدوب ، يحكي الفيلم قصة حقيقية وقعت في الريف سنة 1921 أثناء الحرب ضد الإسبان بقيادة عبد الكريم الخطابي والتي تحكي قصة مجاهد اسمه أفقار عمار الذي كان يعتقد كل أهل القبيلة أنه أحمق ليتضح في الأخير أنه هو العقل المدبر لسرقة السلاح من الإسبان ومحاربتهم به.



حقيقة عبد الكريم الخطابي - TIJJINI Talk - Maghreb TV-فيديو-

 حقيقة عبد الكريم الخطابي - TIJJINI Talk - Maghreb TV



الأحد، 6 ديسمبر 2020

محمد بن عبد الكريم الخطابي… اعتراف دولي مقابل تجاهل محلي

 محمد بن عبد الكريم الخطابي… اعتراف دولي مقابل تجاهل محلي

حسيمة سيتي6 فبراير 2016

في الذكرى الثالثة و الخمسون لرحيل اسد الريف محمد بن عبد الكريم الخطابي ، سننشر سيرة هذا الرجل الذي ظلمه التاريخ و الجغرافيا، سنتطرق فيها لجوانب خفية من سيرة هذا الرجل تجاهلها الاعلام الرسمي و التاريخ الذي يدرس في المدارس و الجامعات في محاولة الى اعادة الاعتبار الى مفخرة الريف الذي اصبح ايقونة و رمزا لكل الشعوب التواقة الى الحرية و محاربة المستعمر عبر العالم.

أمير الريف .. محمد بن عبد الكريم الخطابي

رجلٌ ضئيل الجسد قصير القامة بسيط الملبس، خافت الصوت لا تكاد تسمع حديثه، حييّ لا يكاد ينظر فيك كثيرًا، هاديء الملامح، عزيز النفس متواضعًا، نظراته حادة بشكل غريب حين ينظر، أحبه حتى الفرنسيون والإسبان الذين قاتلوه، كان يحبّ بناته لدرجة أنهنّ يحتمين به من أمّهن، و حين كان في مصر (منفيًا) كان من حبه لهنّ يرفض أن يزوّجهنّ للرجال المصريين؛ يقول أخشى أن أعود للمغرب و لسنَ معي، لكن إذا متّ فليتزوجْنَ من أردْن، و كان و هو في المنفى تُهدى له السيارات و القصور و الهدايا من رؤساء الدول سواء من الملك فاروق الذي استضافه أو عبد الناصر بعد ذلك أو الملك عبد العزيز،، فيرفض أخذ أي شيء منها، ويرفض استخدام أي شيء من هذه الهدايا، أحب البساطة و عاشها ما استطاع.

لكن هذا الرجل بكل الهدوء الذي فيه، قاد أحد أشرس و أعجب و أطول حركات مقاومة الاستعمار في عصرنا،  بملحمة عنيفة بدأت أول أمرها بثمانِ عشرة بندقية، دوّخ إسبانيا و فرنسا، حتى اجتمعت عليه عدة دول كبرى من أجل القضاء عليه.


إنّ المورو -كلمة يقصد بها سكان شمال أفريقية و شمال المغرب – حين يُقتل أخاه في المعركة، لا تراوده فكرة الهرب، بل أول ما يفعله أن يأخذ مكان أخيه و يقاتل .. يقاتل! كذا قال أحد الضباط الإسبان عن رجال الريف المغربي و مقاومتهم.

“إنّ السلاح موجود عند العدو و علينا أن نسعى لأخذه” هكذا كان يقول الخطابي لرجاله و جنوده و لمن يسأله: من أين ستحصل على الأسلحة لتقاوم؟ لم يكن كاذبًا في جوابه و لا مبالغًا حتى، فطول فترة نضاله التي استمرت خمس سنين ضد الإسبان و الفرنسيين، لم يحصل على قطعة سلاح من الخارج كدعم له، بل كان يحصل عليها من عدوه فعلاً!

و للحصول على الذخيرة كان الرجال يدهنون أجسادهم بالزيت شبه عراة، و ينقضّون على مخازن العدوّ و يسلبون ما فيها، و لقد كانت كمية الذخائر التي غنموها بهذه الطريقة من الكثرة بحيث لم تجرؤ تقارير العدو أن تذكرها.

كل طلقة برجل، لديك رصاصة  تقتل بها عدوًا .. لديك رصاصتان تقتل اثنين .. و عشرون طلقة بعشرين ! هكذا رجاله يحسِبون و يفعلون و بشيء من الدقة و الحظ ربما أصابوا رجلين برصاصة!

قال الجنرال بيتان -أكبر قادة الجيش الفرنسي في الحرب العالمية الأولى- عن الخطابي ورجاله: إنهم أقوى عدوّ واجهناه!

و كان أحد القادة الإسبان -الصبنيول كما ينطقها أهل المغرب حينها- و هو بريمو دي ريفيرا يصف الريف و صعوبة القتال فيه و خفة رجاله في القتال وسرعتهم  بأنه: جبح النحل -بيت النحل/الخلية- لن يتوقف عن لدغك.

و قال أحد القادة الآخرين عن معارك المغرب هذه يصف شراستها: كل شبر هنا .. كلفنا معركة !

اشتهر نمط معارك الخطابي الخاطفة (حرب العصابات) حتى أنه عندما التقى وفد فلسطيني ماو تسي تونغ أب الصين الحديثة، و رغبوا في معرفة رؤيته للمقاومة قال لهم: لماذا تبحثون عن رؤيتي؟ أنا تعلمتها من الخطابي!

و حينما زار تشي جيفارا مصر في عهد عبد الناصر، طلب جيفارا مقابلة الخطابي و الجلوس معه، وجلسوا جلسة مطولة، كانت شهرة معاركه و سياسيته العسكرية ثورية في زمنها من الشهرة بحيث يقال أنها تُدرّس اليوم في حرب العصابات في الجامعات، كحرب أنوال إحدى عجائب الحروب الحديثة!

هذا هو محمد بن عبد الكريم الخطابي السياسيّ المناضل.

(مقدمة تاريخية)

وقع المغرب تحت الوصاية –مؤتمر الجزيرة الخضراء– في عام 1324هـ الذي اجتمع فيه الوحوش الكبار لتقرير مصير المستعمرة المغربية، و تقرر وضع المغرب تحت الوصاية بتقسيمها بين فرنسا و إسبانيا بحيث يتضمن هذا بقاء السلطان حينها مولاي عبد العزيز بن الحسن العلوي كحاكم صوري للمغرب، وبدأت فرنسا و إسبانيا في امتصاص كل خيرات المغرب مقابل حماية السلطان و الحفاظ على شرعيته الضعيفة و تقديم مساعدات له – من المضحك أن الميزانية التي أعطيت للقوات الفرنسية داخل المغرب تفوق بثلاثين ضعف المساعدات التي قدمت للسلطان نفسه- و كان المغرب حينها -كحال مجمل البلاد العربية-  في أسوأ أحواله من حيث الفقر و التأخر الحضاري و ضعف الشرعية السياسية لحاكم البلد و الارتهان المصيري للمستعمر.

لم يرضَ الكثير من الأحرار بهذه الاتفاقية خصوصًا منطقة الريف في المغرب ذات الطابع الديني و القبلي، وخرج منها عدة حركات مقاومة غاضبة، وكان الفرنسيون يتدخلون عسكريًا لقمع هذه الحركات النضالية استنادًا على الاتفاقية المذكورة، و من السخرية أن أحاديث الصحف الفرنسية  تلك الفترة كانت تسمي عمليات القوات الفرنسية بكل عنفها و طول مدتها في المغرب بـ (عمليات محاولة التهدئة) إذ إنها كانت تتدخل باسم الدفاع عن شرعية السلطان حينها!

و كانت فرنسا و إسبانيا تستخدم كل الوسائل لإخضاع هذه القبائل، فكانوا يستخدمون القبائل ضد بعضها  بالمال و العنف و الدين و الإذلال، و كان المارشال هويبر ليوتي -المارشال ليوطي كما اشتهر اسمه- يستغل عامل التدين المنتشر بين القبائل، و كان يعتبر نفسه خادم السلطان الأول، و كذلك كانوا  يذلون القبائل حين تستسلم، فيثقلون كاهلها بالتعويضات المالية و العينية، بل و يأخذون رهائن من شباب القبيلة يعملون لديهم، و كانوا يثيرون القبائل على بعضها، و يتسببون بمعارك دامية بينهم -زيادة على ما هو موجود أصلا- كي يخففوا من ثورة القبائل – ولو منفردة و من حين إلى حين- على قواتهم!

الأسوأ أن السلطان كان يجبر القبائل على الانصياع لبعض الاتفاقيات المذلة لهم بينه و بين الإسبان أو الفرنسيين، كل هذا و غيره، جعل منطقة الريف في حالة غليان، فكانت القبائل تغلي و لكن بلا قِدر كما وصف أحدهم، في هذه الأوضاع الممزقة و الغاضبة و المتشابكة كانت نشأة محمد الخطابي.

(النضال من فكرة إلى طلقة)

  بدأ الرجل أول أمره موظفًا عند الإسبان، لم تكن في باله فكرة المقاومة المسلحة، بل إن هذه الفكرة  تشكلت ببطء في ذهنه و على مدى سنين أيضًا، فقد تنقل في مبدأ أمره من موظف للإسبان مأمون الجانب و مغمورًا  مدة من الزمن إلى معتقل لديهم إلى مفاوض سياسي داهية، ثم آخر الأمر  إلى ندّ و مناضل مرعب.


                                                 صورة من الصحيفة التي كان يعمل فيها الخطابي ككاتب و محرر

كان أبوه سيد قبيلة بني ورياغل أحد أكبر قبائل منطقة الريف التي يتواجد فيها قرابة ٥٨ قبيلة، و كان قد تأكد آخر عمره -بعد عمر في التعامل مع الإسبان بل و خدمتهم- أن لا نوايا لدى القوم سوى امتصاص خيرات الريف دون عمل أي شيء له، فبدأ في تغيير علاقته معهم، بمطاولة و هدوء و مكر، ففي لحظة ما بدأ الإسبان يشكون في صدق نوايا الخطابي الأب، حيث قطع عادته في زيارة مدينة مليلية حيث المكتب المركزي لحكومة المستعمر، ثم بدأ في رفض طلبات الإسبان بمحاولة تهدئة القبائل الغاضبة، فبدأ الإسبان  باستجواب  الخطابي الابن الذي كان يعمل صحفيا في مليلية، و كانت أجوبته واضحة و سياسية في لغتها، في أن على أسبانيا أن تتعاون مع الريف لكن لا تطأ قدمها هذا الريف، و أن الريف سيتعاون مع أسبانيا و لكن لن يكون خادمًا لها، و كنوع من الضغط على الأب قرروا سجن الابن.

حاول محمد الهرب، و بعد ترتيب الخطة لذلك، ربط نفسه بحبل و قفز من سور السجن و لكن لسوء حظه كان الحبل  أضعف من رغبته فانقطع به، فسقط في منطقة مليئة بالشظايا، و حينما جاء الذين اتفق معهم على حمله رأوا جثة مغطاة بالدم و عاجزة عن القيام فقربوه من حراس السجن يأسًا من أنه سيعيش، فأخذه الحرّاس و خضع للعلاج مدة طويلة كان فيها مستلقيًا لا يتحرك أبدًا، و بقيت به عرجة من تلك السقطة بقية حياته.


                                    الخطابي أثناء عمله كمترجم للإسبان

و مع مرور الأيام و رؤية صنائع الإسبان في القبائل التي تقاوم، و فرحهم بمقتل محمد أمزيان أحد قادة الثورة ضد الاستعمار الإسباني، أثر ذلك فيه كثيرًا، و رأى كيف يكذب الاستعمار في كل وعوده للمغرب و الريف بالتحديث و التنمية، و بعد محاولات عديدة و الوقوف في موقف حرِج بين القبائل و الإسبان رجاء أن يصدق الإسبان في وعودهم و أن يتوقفوا عن التهام الريف دون مقابل بتنميته وتحديثه و عبر أحداث طويلة و غريبة له و لأبيه، مات أبوه مسمومًا، و وجد الخطابي الابن نفسه في فوهة المدفع، و وجد أن القتال هو الوسيلة الوحيدة للحوار.

(القتال)

بعد أن قطع العلاقات مع الإسبان، بدأ في تجميع القبائل ضدهم و بدأت المواجهات العسكرية بينه و بين الإسبان، و كان من أكثر المعارك صيتًا و أثرًا حتى على المستوى الدولي هي معركة (أنوال 1339هـ) لقد كانت هذه المعركة أحد أعجب معارك العصر الحديث فقد كانت مواجهة بين جيش منظم بأحدث الأسلحة وعددهم قرابة الثلاثين ألف مقاتل، و بين حركة مقاومة بسيطة التسليح و عددها قرابة ثلاثة آلاف مقاتل غير مدرّب تدريبًا حديثًا -اعتقد الإسبان أن القوات الريفية تتجاوز العشرة آلاف لسرعة حركة الريفين- و مع ذلك مُني الإسبان بأكبر هزيمة في تاريخهم، حتى إن المصادر الفرنسية و العربية تتحدث عن المعركة تحت اسم (معركة أنوال) بينما المصادر الإسبانية و إلى اليوم تسميها (كارثة أنوال).

استمرت هذه المعركة مدة شهرين و زيادة، و قد بدأت باحتلال مفرزة أسبانية لمنطقة جبلية  ففاجئهم رجال الريف و حلقوهم عن الجبل حَلقًا، و هرب من استطاع، و عند بلوغ أخبار الهزيمة للجنرال سيلفيستري بدأ التحضير للمعركة و قال الجنرال بغرور أنه سيشرب الشاي المغربي في بيت محمد بن عبد الكريم الخطابي.

و استطاع الخطابي بالدهاء و ومدى جهوزية رجاله الجسدية من السرعة و تحمل العطش -حيث كان الجندي يرابط في خندقه منفردًا مدة يومين دون أكل أو شرب-  و برشوة الجنود الإسبان لتسريب المعلومات- من أن يحاصر الجيش الإسباني حصارًا محكمًا و أن يمنع عنهم كافة الإمدادات، و مع أن الطائرات كانت تأتي و تقصف مواقع قوات الخطابي قصفًا شديدًا  محاولة فكّ الحصار، و لكن قوات الخطابي لم تبارح مكانها، و كانت تستمر المعارك أحيانًا قرابة عشر ساعات، لم يستطع فيها الجيش الإسباني أن يفك الحصار عن نفسه، و زاد الخطابي من حصاره حين  سيطر على البئر الوحيد الموجود في المنطقة و منع الإسبان من الوصول له، فعطش الإسبان عطشًا شديدًا ، و بدل من أن يشرب سلفستري الشاي في بيت الخطابي شرب الإسبان البول من شدة العطش بعد أن صاروا يضعون فيه السكر، كما تقول المصادر الإسبانية.

و  كانت حصيلة المعركة أن انتحر سلفستري في خيمته و هرب الجنود الإسبان، و تمكن الريفيون خلال 72 يومًا من استرجاع ما احتله الإسبان منذ أكثر من 11 سنة، وتكبدوا خسائر فادحة في الأرواح والعتاد،  أكثر من 10000  بين قتيل وجريح، بل بعض المصادر تقول أن القتلى فقط كانوا 19 ألفًا و الجرحى 4300! وأسرت قوات الخطابي  أكثر من 1100 إسباني، وغنموا آلاف المدافع و الرشاشات و البنادق و عشرات الشاحنات و السيارات، و الكثير من  المواد الغذائية والأدوية و الخيام، يقول الخطابي (لقد أعطانا الإسبان في ليلة واحدة كل ما نحتاج إليه للقيام بحرب كبيرة).

و كانت هزيمة الإسبان في أنوال لها أثر كبير في الثورة الريفية و على الإسبانيين أنفسهم و تقول بعض المصادر أن هزيمة الإسبان في أنوال كانت وراء التغيير الذي طرأ على النظام السياسي الإسباني من ملكية إلى جمهورية عسكرية بقيادة بريمو دي ريفيرا سنة 1341هـ وسببا في اندلاع الحرب الأهلية الطاحنة سنة 1355هـ و كانت الصحف الإسبانية تتحدث أن المغرب مقبرة الشباب الإسباني، و ذاع صيت الخطابي كثيرًا بعد هذه المعركة، و اجتمعت قبائل الريف تحت إمرته و نصّبوه أميرًا على الريف.

و سأعرض هنا أهم ملامح شخصية الخطابي المناضل التي لاحظتها في سيرته مضمنّا الشواهد باختصار قدر المستطاع، ثم أكتب الفصل الأخير من حياته رحمه الله.

من أول ما تلاحظه في الرجل هو الخلفية الشرعية و الحديثة فقد تلقى الخطابي تعليمًا شرعيًا أصيلًا في جامعة القرويين بفاس، و كان سليل أسرة علم و قضاء، و احتكّ كثيرًا بالإسبان في شبابه بل و كانت له علاقات واسعة برجال المخابرات الإسبان أول أمره حيث كان مترجما في مليلية، و كان كذلك محررًا في صحيفة (ال تليغراما ديل ريف) في مدينية مليلية أيضًا، و كان قاضيًا فيها، و كان الإسبان يحبون الحديث معه، و درّس الكثير من الجنود الإسبان اللغة الأمازيغية، و من تلامذته الجنرال سيلفيستري المنتحر  إثر هزيمة أنوال، مما يعني أن الخطابي درّس سلفستري مرتين، أحد الدرْسين كلف سلفستري حياته، و كانت شدة اختلاط الخطابي بالإسبان أعطته اطلاعًا و اسعًا على عملهم و تفكيرهم و أدواتهم و رؤاهم و استفاد كثيرًا من ذلك في تخطيط معاركه و تدريب جنوده تدريبًا حديثًا قدر المستطاع، و كانت ميزة لا توجد في قادة القبائل آنذاك.


                              أثناء عمل الخطابي في مليلية كمعلم

هذه المعرفة و هذا الوعي منحه رؤية واقعية بالقضية في التأسيس و تسيير الناس، فالخطابي محمد  -مولاي موحنّد كما يسميه الأمازيغ الذي هو منهم- ليس أول من بدأ مقاومة المستعمر، و لكن مقاومته كانت أذكى و أقوى مرحلة في تاريخ طرد المستعمر من المغرب من 1339هـ  إلى 1345هـ فلم يكن الخطابي مجرد جندي مخلص -هذا ما يحدث حين تكون مؤمنًا فقط بقضية ما- بل كان مع إيمانه بالقضية في غاية الوعي بها و بحدودها، و هذا ما كسى نضاله -والنضال بطبيعته جامح وعاطفي- منطقًا و عقلًا و طريقًا واضحا، كان يعلم  أنه لابد للمغرب من الاستعانة بدولة أوروبية و لا يمكن للمغرب الفقير الممزق الزراعي أن يتطور إلا بمعونة دولة أوروبية، و كان يرى أن فرنسا قوية و لكنها ستلتهم المغرب، و لكن أسبانيا من الممكن أن تساعد المغرب و هي أضعف من أن تبتلعه! فحاول قدر المستطاع هو و أبوه أن يدفع الإسبان لتحديث الريف و إصلاحه مقابل منافع و مميزات يحصل عليها الإسبان، و تصالح معهم لدرجة الحلف – و هذا ما جعل سيرته الأولى في العلاقة مع الإسبان محط تحليل و جدل كبير- و كان يلمّح في بعض رسائله إلى ضعف وعي قومه بحقيقة الوضع و عدم فهمهم السليم لموازين القوى،و أن مجرد المقاومة المسلحة هي الفكرة المسيطرة عليهم، و لكن فشلت كل محاولاته أن تكون هناك علاقة تجارية مفيدة للطرفين بين الإسبان و الريف فاتجه للمقاومة المسلحة، و حين فعل ذلك لم تكن مقاومته ثأرية فقط، بل كانت حركة بناء تستخدم العنف حين لا يوجد حل آخر، كان لديه تصور واضح لما ينبغي فعله و حدود واقعه و قدرته، والأهم كانت لديه رؤية لحالة ما بعد الصراع (الدولة/الوطن) فكان مثلا يحدث أنصاره دائما عن فكرة التحرير و إقامة دولة و ليس فقط المقاومة حتى يرحل العدو، كانت القبائل تقاتل متفرقة و لا تُعنى بغير نفسها و كانت في غاية التناحر، بل كان يقال أن الرجل الريفي لا يعتبر رجلًا إذا تزوج ولم يسبق له قتل رجلٍ واحد على الأقل، جمع الخطابي كل هذه القبائل المتناحرة و أحيا فيها خطاب الوطن، لدرجة نسي الناس ثأرهم ممن قتل آبائهم أو أبنائهم، و وضع قوانين عقوبات على من يقوم بالثأر، و سحب التقاضي من مشايخ القبائل و وضعه في أيدي قضاة شرعيين، وكانت الحركات النضالية قبله مثل حركة أحمد الريسوني تعتمد عامل القبيلة و على الأموال لضمان ولاء القبائل و دعمها العسكري، مما جعل قيمة المال يحدد مستوى الدعم، بينما الخطابي جعل قضية النضال ضد المستعمر قضية القبائل نفسها فلم تكن تحتاج إلى مال لكسب الولاء، بل كانت تبذل في سبيل هذه القضية من مالها، لقد أحدث خطابًا جديدًا نفسيًا و اجتماعيًا و سياسيًا للمنطقة، و التحم الجميع تحت راية واحدة و من بين ٥٨ قبيلة انضم للخطابي ٥٥ قبيلة منها، و كان من أجل تطمين القبائل أنه لا يسعى للتسلط كان حين تأتي القبيلة للانضمام للحركة المقاومة كان يطلب منهم أن يختاروا لهم قائدًا، و لا ينصّب هو من جهته قائدًا، و كان ذلك يشعر القبيلة بالثقة و بسلامة مقاصد الخطابي، إذ من طبيعة الناس حينها أن يطيعوا القادة المنتمين لنفس قبيلتهم بغض النظر عن أي شيء آخر، وكان يلاقي صعوبات من زعامات قطاع الطرق و شيوخ القبائل و لم يكن شديد العسف معهم على حرَجِ الموقف، بل  كان يفاوضهم على الانضواء تحت الحركة المقاومة للمستعمر، و إن فشل فاوض على الحياد! و في آخر الأمر كان يفاوض على الأقل أن تكف القبائل الرافضة للحركة أذاها فقط! و عندما انتشر السلاح بين القبائل بعد معركة أنوال شعر الناس أن السلاح ملك لهم، فقرر رسميًّا ضبطه، و من أجل أن لا يتوتر الناس من جمع السلاح وكأنه انتزاع لحق منهم للطبيعة القبلية فيهم، قرر تعويض كل من يسلم سلاحه و ثم عقوبة كل من لم يسلمه، و لكن لم يعاقب أحدًا.

و أسس في المنطقة جمهورية سماها  جمهورية الريف كان لها بنك و وزارات و عملة خاصة، و أجرى  تحديثات مدنية هائلة في الريف من شق الطرق و ربط القرى بشبكة الهواتف، و أصدر عددًا كبيرًا من القوانين و القرارات التي تساهم في حياكة نسيج متين لمجتمع حديث و ليس مجرد مجموعة قبائل قد تتناحر في أي وقت.


                                             العملة الريفية في عهد الحكومة التي أسسها الخطابي

و مع كثرة العوامل المتناقضة التي كان عليه التعامل معها و كثرة  الراغبين في الاستفادة من القضية مثل ألمانيا و الدولة العثمانية و أسبانيا و فرنسا و القبائل المضادة و السلطان المغربي الضعيف حينها، كلهم كانوا يرغبون في الدخول بطريقة أو بأخرى في  قضية الريف، مع كل ذلك كان الخطابي يمتلكقدرة عالية على التوزان النفسي و هذا تجده في ناحيتين:

  • التوزان بين الإيمان بالقضية و الانخراط في الدفاع عنها للحد الأقصى و في نفس الوقت عدم الاستفادة شخصيًا من القضية، إنها قضيته تمامًا، لكن حين تتعارض رغبته و تاريخه النضالي مع مصلحة القضية، لا يتردد في تقديم القضية على نفسه، يشبه أن تقارب قطبين أحدهما سالب و موجب أقصى مقاربة لمدة طويلة لكن دون أن يلتصقا ببعضهما، يظهر هذا في القرارات المصيرية المتخذة في ظرف نضالهما، من ناحية الاستسلام أو التراجع أو التنازل، أو ترك خيار العنف أو حتى استخدامه، مثل هذا التوزان بين الانخراط التام في الايمان و الدفاع عن قضية ما و بين اعتبارها قضيتك الشخصية و التعامل معها بناء على مصلحة سمعتك كمدافع عن القضية، ليس من السهل أبدًا القيام به، أن تنهزم أنت أو تُسجن، لكن تنتصر قضيتك،  إنه لا يبيع القضية لكنه قطعًا لن يسترزق بها، و أوضح مثال لهذه الصفة هو إلقاء السلاح في المعركة الأخيرة.
  • التوزان الثاني كان في استخدام كل و أقصى ما يمكن من أدوات الواقع لنصرة القضية دون تفجير الوضع بشكل جنوني يُفقده السيطرة  و لكن ربما يمنحه رضى الغرور، كان يقاوم دائمًا و باستمرار و في نفس الوقت كان يبذل كل الجهود السياسية لحل القضية، لم يعتمد فقط على الحل السياسي لكنه لم يفرط فيه، و مع كون الجولات و المفاوضات السياسية مملة و ثقيلة، لم يتركها و لم يترك النضال -إنها صفة تجدها بالمسطرة في علي عزت بيغوفيتش و تحرير البوسنة- زار الخطابي باريس و لندن و جنيف، و بذل أقصى جهده لكسب الرأي الدولي العام في صف قضيته لم يتجاهل تأثير القوى الكبرى و لم يعتمد عليها مطلقًا، و كان بعد كل معركة يتوسع فيها يسرب متعمدًا للفرنسيين أنه يريد الهدنة لا القتال، رغبة منه في تثبيت ما كسبه و تحصينه و أن لا يجتمع عليه الفرنسيين و الإسبان، و ظل ثلاث سنين و هو يحاول تحييد الفرنسيين عن المعركة، و جاءته بعض القبائل التي تقطن المنطقة التي يسيطر الفرنسيون عليها و طلبت منه أن يقبل انضمامها له و أن يفتح جبهة ضد الفرنسيين فشكر لهم صدقهم و رغبتهم، و لكنه اعتذر منهم و طلب منهم أن يجاملوا الفرنسيين هذه الفترة، لأن لا أحد مستعد الآن لمواجهة الفرنسيين، و حين طرد الإسبان إلى مليلية، رفض اقتحامها لأسباب واقعية تمامًا، فلم يكن يعرف أي شيء عن جاهزية الإسبان داخل المدينة، و خشي من الموقف الدولي الذي سيتأزم ضده جدًا، و أنه لا يملك الكفاءات اللازمة لتسيير شؤون المدينة، فربما انفلت الأمن عليه و لن يستطع السيطرة -و لو أنه ندم على عدم دخول مليلية كما اعترف في مذكراته- كان يعرف جيدًا الحد الأقصى من قدرته و يستخدمه لأقصاه كذلك، لم تدفعه عدالة قضيته للتهور، و لكن لم تمنعه ضعف قدراته من التراجع، كان يعرف أن نصف خطوة ربما تفصل بين أقصى قدرته و بين انهيار هذه القدرة، فكان يسيّر كل خططه و مقاومته محافظًا على هذه المسافة الصعبة من الواقعية.

الميزة الأخرى هي امتلاك خطاب سياسي متفوق، و هذا من  أكثر مايشدك حين تتأمل سيرة هذا الرجل، فاللغة التي كان الخطابي يخاطب فيها الإسبان في صحفهم مثلا كانت سياسية عاقلة و مثالية جدًا، كأنها خطاب أحد حماة حقوق الانسان في هذه الأيام مثلاً لقد كان يقول إنه لايكنّ للإسبان أي عداوة أو ثأر و ليس بينه و بين المواطن الإسباني أي ضغينة إنه يرحّب بالإسبان التجار و المهندسين و نحوهم، لكنه يرفض أن يتعدى أحد على أرضه بالسلاح و أنه يطمح لعلاقات حضارية و أخوية بين البلدين، قدم خطابًا لعصبة الأمم حينها وصف فيها حركة الريف بالجمهورية، لم يكن خطابه مجنونًا ينذر بالقتل و الفتوحات و التدمير، بل خطابٌ عاقلٌ و عزيز و واعي و حديث في مفرداته.

و حين تتتبع مخاطباته مع الإسبان أول أمره تجد اللغة السياسية العالية التي يعترف بها بما يريد دون أن تستطيع استخدامها ضده، يقول الرافعي واصفًا اللغة السياسية (حين يقول السياسي نعم فهو يقصد ربما، و حين يقول ربما فهو يقصد لا، و لكنه حين يقول لا، يتوقف عن كونه سياسيًا) هكذا كانت لغة الخطابي السياسية،  قال عنه أحد قضاة أسبانيا الذي حكم عليه في قضية سجنه: تظهر تصريحاته أنه لا يقول إلا ما يطيب له قوله، و كل ما طرح عليه سؤال محرج جَـرّ مخاطبه إلى عكس ما ينتظره تماما، بل إن الإسبان احتاجوا لوقت طويل للحكم على الخطابي بأنه عدو و وقعوا في حيرة من لغته و تصرفه، مما يدل على مستوى عالي من القدرة على مجاراة المكر السياسي بأدواته، ربما تخلو خطاباته من العنتريات و لكنها لا تخلو من الشجاعة.

و يقول عن نفسه و مهمة حركته (أنا لا أريد أن أكون أميرا ولا حاكما، وإنما أريد أن أكون حرًا ولا أطيق من سلب حريتي وكرامتي، لا أريدها سلطنة و لا إمارة، و لا جمهورية، و لا محمية، و إنما أريدها عدالة إجتماعية، و نظاما عادلا، يستمد روحه من تراثنا و حرية شاملة حتى نرى أين نضع أقدامنا في موكب الإنسان العاقل المنتج العامل لخير المجتمع) هذا نموذج لمقولاته المتزنة، قارن هذا بالخطابات المجنونة لحركات المقاومة اليوم و لبعض الرموز الكبار، فحين انتخب مرسي مثلا صرّح أحدهم أنها بداية طريق تحرير القدس.

ومن الصفات المشتركة بين كل المقاومين و الرموز الثورية والتي تجدها بعمق لدى الخطابي هي أنثمّة شعور عالي بالواجب و بالمبدأ فقد كان بالإمكان أن يعيش أحدهم معلمًا أو مزارعًا مكتفيًا بالقليل من المال، لكن الشعور بالواجب والمبدأ هو ما دفعهم لتغيير نمط حياتهم بالكامل لهدف و غاية، و ميزة الانطلاق من المبدأ و صعوبته في آن واحد هي: أن تصبح القضية غير قابلة للمساومة، غير قابلة لثمن! لأن المبدأ لا يتجزأ، و حين ينطلق الثائر في ثورته من نقطةٍ غير المبدأ تصبح المساومة مسألة وقت، مهما  غلى الثمن و طال الزمن، المبدأ حجرة صلبة عميقة تبني عليها قضيتك، و إن لم تكن أصيلًا ستنوء بحمل هذه الصخرة، من يدري ربما في منتصف الطريق أو عند آخر خطوة، فهذا الخطابي بعد نفيه عشرين سنة، حين استقر في مصر، عاد و عمل على تأسيس مكتب المغرب العربي في شارع سعد زغلول في القاهرة، وكان المغاربة  و غيرهم من المنفيين في زمن الاستعمار يجتمعون فيه، و كان أغلبهم من الذين طلبوا اللجوء  السياسي في مصر علاّل الفاسي والحبيب بورقيبة، وغيرهم، و بدأ في بناء خلايا عسكرية من أجل تحرير المغرب و شمال أفريقية، لم يسكن لهدوءه و كبر سنه و مرضه، كان يرى المستعمر شرًا  و كل من يعمل معه كذلك، فرفض مثلا أن يتزوج ابن ملك ليبيا السنوسي من ابنة أخيه، كان يقول أن السنوسي أحد أدوات الاستعمار،و كان يتابع و يدعم النضال الجزائري باستمرار و أرسل ابنه لألمانيا لترتيب شراء أسلحة للمقاومة، و كان يجلس مع المقاومين الجزائريين من المساء حتى طلوع الصبح، بل و كان من شروطه للعودة إلى المغرب طرد كل الفرنسيين الاستعماريين الذين ظلوا في المغرب بعد جلاء القوات الفرنسية، وكذا استبعاد المغاربة الذين تعاونوا مع فرنسا خلال فترة الاستعمار، لقد كان مبدأً و اضحًا ومستقيمًا طوال خطّ العمر.


                                                       مكتب المغرب العربي الذي تأسس من أجل فكرة تحرير شمال أفريقيا

فلم وثائقي، عبد الكريم الخطابي.flv

 فلم وثائقي، عبد الكريم الخطابي.flv



محمد عبد الكريم الخطابي ..أسطورة الريف وملهم جيفارا ومعلمه

 محمد عبد الكريم الخطابي ..أسطورة الريف وملهم جيفارا ومعلمه



الخطابي.. ملهم جيفارا الذي يجهله العرب

 الخطابي.. ملهم جيفارا الذي يجهله العرب



عبد الكريم الخطابي: رمز المقاومة من المغرب الى العالم

 عبد الكريم الخطابي: رمز المقاومة من المغرب الى العالم



هنا يرقد أسد الريف .. عبد الكريم الخطابي

 هنا يرقد أسد الريف .. عبد الكريم الخطابي

 اعتماد سلام

تاه سائق سيارة الأجرة وهو يبحث عن العنوان. لأول مرة يسمع بمقبرة الشهداء التي دفن فيها محمد نجيب أول رئيس لمصر، لذلك قطع طريق صلاح سالم وطرقا كثيرة في ضواحيها مرارا وتكرارا دون أن يهتدي إلى المقبرة أو إلى دليل عارف رغم سؤاله المتكرر لزملائه من السائقين!

جاء الفرج من عند صديق أوصاني به صديق آخر فتح أخيرا رسائله ليرد على رسالتي ويبعث لي رقم هاتفه المصري. اتصلت به فورا فوضع حدا لتيهاننا في شوارع القاهرة بوصفه الدقيق.

المكان المقصود توجد فيه مجموعة من المقابر لذلك توقف السائق عدة مرات، يبادر هو بالسؤال ما إذا كنا نسير في الاتجاه الصحيح تارة، وتارة أخرى يفعل صديق مصري رافقني.. إلى أن توقفت السيارة أمام باب المقبرة!
كان الباب مغلقا. طرقناه وانتظرنا بعض الوقت إلى أن أتى شاب وفتحه. سألته ما إذا أتينا خارج الوقت المخصص للزيارة؟ فقال إن الزيارات تكون طوال اليوم وإن كان الباب مغلقا. سألته ثانية لكن هذه المرة عن قبر المجاهد عبد الكريم الخطابي، فقادني بسرعة تنم عن معرفته الوثيقة بالمكان إلى القبر الذي يوجد في اتجاه اليسار بعد الدخول عبر البوابة الرئيسة لمقبرة شهداء القوات المسلحة.
القبر الذي يحمل رقم 151 دفن فيه الخطابي ونجله الأكبر، وكتب على شاهدته ‘الشهيد المجاهد الأمير محمد عبد الكريم الخطابي بطل المغرب العربي’.

على مقربة من القبر العاجي نمت شجرة صبار وانحنت قليلا صوبه في انحناءة خشوع على الأرجح!
الصمت الذي يخيم على المقبرة كسرته أصوات المآذن التي ارتفعت من كل صوب تعلن صلاة العصر..
شعرت بغصة وضيم كبيرين وأنا أفكر في أن هذا الرجل الذي قهر المستعمر الإسباني وأزعج المستعمر الفرنسي وأتى ذات يوم تشي غيفارا خصيصا إلى القاهرة ليتعلم منه.. لم يجد مكانا بحجم مترين أو ثلاث في وطنه الشاسع والمترامي الأطراف ليدفن فيه؟ هذا الرجل الذي قضى سنوات عمره يدافع عن تراب بلده وهو حي لم يضمه ذاك التراب وهو ميت؟. ألم يكف أن الأعداء غربوه قسرا في حياته ونفوه إلى لارينيون، ليغترب أيضا في مماته وإن دفن في وطنه الثاني الذي قضى فيه زمنا..؟! هل يتدارك الوطن جزءا مما فات ويستعيد رفات أسد الريف, لعله يحقق بعض الإنصاف للأمير المجاهد الذي لقن العالم دروسا لا تنسى في بسالة المغاربة واستعدادهم للذوذ عن أرضهم؟!!

سقطت دمعة من العين..
تناثرت فجأة قطرات مطر خفيف مصحوب بنسيم جعل شجرة الصبار تنحني أكثر قرب شاهدة قبر الشهيد. قرأت الفاتحة ثانية لروحه وغادرت.








أسد الريف.. مهندس حرب العصابات عادل أعياش

 

أسد الريف.. مهندس حرب العصابات

للبطولات دروسٌ وعبر من أناس وهبوا أنفسهم رخيصة لأجل أن يبقى تراب وطنهم طاهراً من دنس الاحتلال، إنها الحرية التي لا يتذوّق طعمَها إلا أولئك الذين اقتلعوها بأظفارهم المدماة من تعنّت المحتلّ المتجبّر وحلفاءه.
 
في قصصِ التحرّر التي كشفت عبر تاريخ الإنسانية الطويل، عن معدنٍ بشريٍ أصيل رافضٍ لكل أوجه الانصياع والاستعباد، متطلّع بطبيعته إلى الحرية والاستقلال ولو كان الثمن المقابل يتعارض مع ميل الإنسان للحياة الهنية والعيش الرغد، فمبدأ الحرية تكاد تنتفي أمامَه كلُّ أساسيات الحياة الأخرى، فهي الأصل، كيف لا والطير نفسه يهرب إلى السماء محلقاً في العلياء حتى وإن اقتربتَ إليه بأجود الأطعمة، مفضلاً بذلك حريته على أي إغراء مادي آخر كيفما كان.
 
قصة البطل المجاهد عبد الكريم الخطابي الذي نقشَ اسمه في صفحات التاريخ الإنساني إلى الأبد، كشخصيةٍ قدّمت دروساً خالدة في معنى الوفاء للوطن والتصدي المُتفاني للاحتلال، تكاد هذه الشخصية لا تُفارق المقررات التاريخية الأجنبية والدراسات العسكرية في الكليات الحربية عبر العالم حتى أُشبعت بحثاً وتمحيصا، في حين نجدها غائبة منسيّة عند أصحاب الشأن في الوطن العربي، فلو سألتَ طالبا عربيا عن تشي جيفارا مثلا أو ماوتسي تونغ لأجابكَ بما يُثلج به صدرك، لكنه يقف عاجزاً كل العجز عن معرفة شخصية عربية خلّدها التاريخ العالمي اسمُها عبد الكريم الخطابي.
 

لم يكن عبد الكريم الخطابي ليحقّق كل هذه الانتصارات المُبهرة بذكائه الثّاقب لولا وجود رجال مقاومين ميزتهم سرعة البديهة، لا يُرهبهم الموتُ ولا أسلحة العدوّ المخيفة

هو محمد بن عبد الكريم الخطابي أو "رقايد محند" كما يُسميه سكان الريف، أسطورة المقاومة المغربية، الشخص الذي ألحقَ بقوتين عظيمتين هزائم نكراء دفعت بعض الجنرالات إلى الانتحار هروباً من تبعات الذلّ والعار، وُلد سنة 1882 بأجدير، ينتسبُ إلى قبيلة بني ورياغل، اشتغلَ معلماً ومترجماً وكاتباً بالإدارة المركزية للشؤون الأهلية بمليلية، وصحفياً بجريدة "تلغراف ديل الريف" الناطقة بالإسبانية، وصل إلى مليلية وعمره 24 سنة، وبحكم شغله تقرّب من الإسبان حتى أنّه كان يلعب معهم الدومينو في المقهى، تابعَ تمرّد العرب على الأتراك مع (لورانس العرب) والحركة العالمية لمحمد علي يونس وأُعجب كثيراً بشخصية كمال أتاتورك، مكّنه احتكاكه بالمجتمع الإسباني عن قرب من كشف خبايا عقليته والتغلغل في طريقة تفكيره ونظرته للمستقبل والمنطقة، قال "لم أعتبر يوماً أن الحضارة الغربية غاية في السعادة والاستقرار، وكنتُ كلما زاد احتكاكي بالإسبان والأوروبيين زاد إيماني بأنهم يعيشون في حُلم الاستعمار والاستغلال"، ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى اتّهمه الإسبان بالتنسيق مع ألمانيا فكان مصيره السجن.

 
كان كرهه للاستعمار يزيدُ يوماً بعد يوم، فتفكيره كلّه كان منصبّا في لحظة التحرر من قبضته وبزوغ فجر الحرية والاستقلال، خصوصاً وأنّ منظر رجل يُضرب بالسّوط من طرف جندي إسباني وهو يستغيث فجّر غضبه وألهب حقده وكان بمثابة الشرارة الأولى التي أشعلت مجابهته للاستعمار، كان يُردّد دائما "لا أدري في هذا الوجود سوى الحرية، وكل ما سواها باطل"، ولم تتوقع إسبانيا أن يتحوّل عبد الكريم الخطابي بعد ذلك إلى أشد أعدائها، وأن يُلحقَ بها أفدح الخسائر في الأرواح والعتاد.
 
ودخل عبد الكريم الخطابي حربه ضد المستعمر الإسباني وهو لا يملكُ ما يُواجه به قوة عسكرية هائلة سوى إيمانه الراسخ بالاستقلال، وطرد المحتل من أرض الأجداد والأحفاد، يُناصره في ذلك ثلّة من الرجال المغاوير الأشاوس، وقد أحدث عبد الكريم الخطابي بتكتيكاته العسكرية الماكرة صدمة كبرى لجنرالات إسبانيا، فأبهرهم بطريقة قتاله ودقّته البالغة في تحديد الهدف ولحظة الهجوم، وحتى يستطيع الصمود في وجه الإسبان لجأ إلى تطوير أسلوب جديد في القتال لم يسبقه إليه أحد من قبل في تنظيمه وطريقة تنفيذه، أسلوب عُرف بحرب العصابات القائم على المباغتة والكرّ والفرّ.
 
وصحيح أن هذا التكتيك كان معروفاً قبل ذلك، فقد استخدمه المجاهد الليبي عمر المختار، واسْتُخدمَ في حرب فيتنام والحرب الشعبية في الصين والهند وفي الحروب العالمية كسلاحٍ فعّالٍ بين قوتين غير متكافئتين، إلا أن المجاهد عبد الكريم الخطابي استطاع أن يُطوره بشكل كبيرٍ وأعاد هيكلته وضبطه بطريقة أتتْ أُكلها بما لم يكن متوقّعا، فطوّر نظام حفرِ الخنادق للتواري عن أنظار العدو وتجنّب الخسائر البشرية الباهظة في حالة سقوط القذائف القريبة، وطوّر طرق الانقضاض على العدو باختيار المكان المناسب واللحظة المناسبة تفادياً للاصطدام مع الجيش وتسهيلا لعملية الانسحاب، كما نهج طريقة حماية الأراضي المحرّرة لأول مرة وأنشأ فرق المهمات الصعبة المدربة تدريباً عاليا أو ما يُسمى الآن بالكوماندوس، وحاصر الجيش الاسباني كثير العدد والعدّة، حتى جعل جنوده يشربون بولهم من شدّة العطش، فكان يواجه بـ 20 ألفا من المجاهدين الأبطال أكثر من نصف مليون من جيش العدو فيُوقع به الهزيمة تِلو الأخرى، ألحقَ بالجنرال سلفستري في معركة أنوال الشهيرة في يوليو 1921 هزيمة مدوية دفعته للانتحار وكبار ضباطه اتقاء للعار، حيث تمكّن عبد الكريم الخطابي من قتل أزيد من 15 ألف جندي واغتنم قطعاً مدفعية ومعدات حربية عديدة، وأسر أكثر من 600 آخرين، برجال مستبسلين أشد الاستبسال لم يتعدّ عددهم ألف رجل، وحّد صفوف قبائل الريف شمال المغرب وتفطّن لكل مكائد العدوّ في التقسيم ونشر الخلاف والفُرقة.
 
ولم يكن عبد الكريم الخطابي ليحقّق كل هذه الانتصارات المُبهرة بذكائه الثّاقب لولا وجود رجال مقاومين ميزتهم سرعة البديهة، لا يُرهبهم الموتُ ولا أسلحة العدوّ المخيفة، فقد كان باستطاعتهم أن يمكثوا 3 أيام مُتوالية دون أكلٍ سوى بعض الفواكه الجافّة "والقديد" ينتظرون مرور العدو ليُجهزوا عليه بأسلحتهم البسيطة، كانوا يصوبون بدقة عالية على بعد 800 متر، حتى وصل بهم الأمر أن يحسبوا بمهارة عالية ودقّة متناهية وقت سقوط القذيفة وانسيابها في الهواء.
 
هذه الإرادة العجيبة وقفت سدّاً منيعاً في وجه الاحتلال الاسباني، وقد اعترف بذلك المارشال بيتن بقوله "إن الجنود المغاربة من أشجع الجنود في العالم، ولا يُوجد من يماثلهم في المعركة". وحتى صيف 1925 كانت اسبانيا قبل اتّفاقها مع فرنسا على إبادة سكان الريف قد وصلتْ إلى مرحلة متقدمة من الإخفاق والعجز على كبح إرادة المقاومين شمال المغرب، فالتجأت إلى استخدام وسائل الجبناء، وألقتْ طائراتها على منطقة الريف غازات سامة محرمة دوليا حصدت آلاف الأرواح من الرجال والنساء والأطفال والدواب، وقد أحيطت العملية بسرية تامّة خوفاً من ردّة فعل المنتظم الدولي تجاه هذه الوسيلة الرهيبة في إبادة الجنس البشري.
   
 
وهكذا لم يكن أمام المجاهدين سوى الرضوخ لقدر الموتِ اختناقاً وهم يبتسمون من جبن وتفاهة عدوّهم الذي يعرف تمام المعرفة أنه المنهزم في المعركة، ولم يكن أمام عبد الكريم الخطابي سوى أن يُسلّم نفسه للمستعمر خوفاً من سقوط المزيد من الضحايا الأبرياء في موقف بطولي تاريخي لا يفعله سوى الرجال الذين تنتفي أنفسُهم وأجسادُهم تجاه ذرّة واحدة من تراب الوطن الطاهر. هكذا تمّ وأد المقاومة الريفية بالأسلحة الكيماوية بلا رحمة ولا شفقة، دون ردّ فعلٍ حازم من العالم إلى حدود كتابة هذه الكلمات المريرة، ومازالت المنطقة برمّتها تعاني من تبعات السموم بشكل فظيع.
 
إنه البطل المغوار سيدي محند قاهر الاستعمار الاسباني في شمال المغرب، الرجل الذي انحنى له تشي جيفارا احتراماً لمكانته واسمه بعد أن زاره شخصيا في القاهرة سنة 1960، واعترف بأنه أخذ منه تكتيك حرب العصابات، واستلهم من شجاعته وإقدامه الشيء الكثير، وقد قال ماوتسي تونغ لوفد فلسطيني زاره في بيكين سنة 1971، جئتم تريدون أن أحدّثكم عن حرب التحرير الشعبية، في حين يوجد في تاريخكم أحد المصادر الأساسية التي تعلّمت منها الكثير، وكان يقصدُ بقوله المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي.
  
تُوفي مهندس حرب العصابات بمصر يوم 6 فبراير 1963، ودُفن في مقبرة الشهداء بالقاهرة.


عن موقع
الجزيرة

بورتريه: “موح ازذاذ” فينق المقاومة الريفية..

شهداء....وشهيدات: بورتريه: “موح ازذاذ” فينق المقاومة الريفية..: بورتريه: “موح ازذاذ” فينق المقاومة الريفية.. ...



الجمعة، 4 ديسمبر 2020

جمال الكتابي عبد الكريم الخطابي: "المعلم المجهول لتشي غيفارا"

جمال الكتابي

عبد الكريم الخطابي: "المعلم المجهول لتشي غيفارا"

الإثنين 20 يوليو 2020 | 

 تحت هذا العنوان نشرت الباحثة الألمانية من أصل تركي السيدة  Mevliyar Er، قبل خمس سنوات، بحثا أكاديميا بالإنجليزية حول انتقال تجربة عبد الكريم التحررية ( حرب العصابات ) إلى أمريكا اللاتينية عامة والثورة الكوبية خاصة.

طريقة انتقال تجربة عبد الكريم الى أمريكا الجنوبية كانت دائما محط نقاش وتساؤل من طرف العديد من الباحثين والمهتمين بهذا الموضوع، كيف انتقلت اذن هذه التجربة ؟.

إن انتقال تجربة عبد الكريم إلى كوبا لم يتم عبر اللقاءات المباشرة لقادة الثورة الكوبية بعبد الكريم، حسب الباحثة، بل انتقلت عبر مقاتل كوبي إسمه Alberto Bayo. هذا الأخير شارك في معركة أنوال وحرب الريف بجانب القوات الإسبانية كجندي وطيار. الكولونيل “بايو” كان مجندا ضمن اللفيف الإسباني لمدة 11 سنة. هذا اللفيف كان مشكلا من مجندين من جنسيات مختلفة أغلبها ألمانية وبرتغالية. تم تأسيسه من طرف الملك الفونسو الثالث عشر بمرسوم ملكي صدر 28 يناير 1920, وعين على رأسه الماجور ‘خوسيه ميلان أستراي”،ليعوضه فرانكو لاحقا بعد سنتين. وكان شعار هذا اللفيف هو ” يحيا الموت” ليؤكد على وحشيته، حسب الكاتب الألماني Florian Stark الذي نشر مقالا حول هذا اللفيف في المجلة الألمانية الرقمية Welt  في نهاية يناير 2020 تحت عنوان ” اللفيف الاسباني؛ الضباط والمرؤوسين يطلقون النار على كل من رفض”.

عندما بدأت الحرب الأهلية الاسبانية  بين الحكومة اليسارية بقيادة الجبهة الشعبية و ‘فراكو’ سنة 1936 سيعلن ‘بايو’ انضمامه إلى صفوف الجبهة كقائد عسكري. سينسحب بعد سنة ونصف من القتال بجانب الجمهوريين ليذهب نحو الميكسيك بسبب خلاف مع قيادة الجبهة الشعبية حول خطة سير العمليات القتالية، خاصة أنه كان يدعو إلى تطبيق أسلوب ‘حرب العصابات’ ضد قوات فرانكو لهزمها كما هزمت بالريف.

‘ألبيرتو بايو’ لم يكن الشخص الوحيد الذي حمل مشعل ثورة الريف إلى الخارج. بل إن المقاتلين الأجانب الذين قاتلوا بجانب عبد الكريم كان لهم الفضل الكبير للتعريف بالثورة من خلال مذكراتهم أو مشاركتهم المباشرة في ثورات مناهضة للإمبريالية أو الفاشية. هذا الانقلاب الذي حصل في صفوف مجندي اللفيف يعزوه البروفيسور سبستيان بلفور في كتابه: ( العناق المميت؛ الفصل الثامن) إلى الظلم والحكرة وهول الحرب التي عاشها هؤلاء خلال حرب الريف، بحيث أن الكثير منهم لم تكن لهم تجارب وخبرة في خوض حرب العصابات، حسب بلفور.

ويضيف بلفور أنه عند تسريح هؤلاء من الجندية تشكل لديهم أكبر عداء للمؤسسة العسكرية مما جعلهم ينضمون إلى مشاريع مناوئة. وهذا ما يبرر انضمام المئات منهم إلى ثورة الريف للقتال في صفوفها ( جوزيف كليمس اوطو، عبد الله صربيانو، أنطونيو ميكانيكو…).

ونظرا لأهمية هذا البحث في تقديم معطيات جديدة في هذا الجانب، أقدم ملخصا له من أجل تعميم الفائدة، ونحن على أبواب الذكرى 99 لملحمة أنوال الخالدة. فبالرغم من مرور قرن من الزمن تقريبا على ثورة الريف وأسر عبد الكريم، لم تتوقف الكتابة حول تجربته كما لم يتوقف إشعاع تلك التجربة. أخرها ما نشره الكاتب والمخرج الكتلاني Xavier Montanya في بداية يناير 2020 حول الكونيل “ألبيرتو بايو” تحت عنوان ” من هو ألبيرتو بايو..حياة أستاذ ‘تشي’ من خلال خمس محطات”.

يتناول الكاتب في جزء من مقاله تطبيق أسلوب حرب العصابات من طرف “بايو” في تحرير أغلب جزر البليار من قوات فرانكو اثناء الحرب الاهلية وكذا نقل هذا الاسلوب الى كوبا.

الكاتب الكتلاني تقاطع مع الباحثة الالمانية حول انتقال تجربة عبد الكريم الى امريكا الجنوبية عموما وكوبا خاصة من طرف ‘بايو’، بل اضاف معطيات هامة حول هذا الموضوع، وخاصة أنه اقتفى أثر ‘بايو’ في تطبيق أسلوب حرب العصابات كما هو معروف بالريف من أجل استرجاع أغلب جزر البليار الواقعة في المنطقة الترابية لكتالونيا من سيطرة قوات فرانكو.

سأقدم ملخصا كذلك لمقاله ضمن هذه المحاولة. المقال نشر باللغة الكتلانية بالجريدة الرقمية للخضر Sapiens. [لم يقتسم معنا الكاتب المصادر التي اعتمدها في كتابة مقاله. حاولت الاتصال به لاستفساره حول مصادره لكن بدون جدوى. وأشكر احد الاصدقاء حول اسهامه في ترجمة المقال]. بينما اعتمدت الباحثة الألمانية في بحثها على مصادر تاريخية كثيرة ومتنوعة، من بينها مذكرات كاسترو وتشي غيفارا.

حاولت الباحثة إعمال ذكائها من أجل تقديم خلاصات معززة بالمصادر تماشيا مع عنوان بحثها.

يعتبر البعض أن الزعيم الروحي لكاسترو وتشي هو الكاتب والباحث القومي الكوبي ” خوسي مارتي”, الذي توفي سنة 1886، هذا بدون شك. لقد سبق لكاسترو أن أكد ذلك في كلماته، لكن يبقى ‘بايو’  الملهم والمؤطر العسكري والميداني للثورة الكوبية.

كيف أثرت تجربة عبد الكريم في الثورة الكوبية؟

تقول الباحثة الالمانية أنه لم يثبت أن زار تشي غيفارا عبد الكريم في مصر عام 1959، لكن من المحتمل أن يكون قد زاره، لأن ‘تشي’ كان يسافر باستمرار في ذلك الوقت، كما أن عبد الكريم كان يستقبل بانتظام الثوريين عبر العالم في القاهرة.

حدث ذلك أم لم يحدث، فإن كلا من ‘فيديل كاسترو’ و’تشي’ كانا معجبين بزعيم ثورة الريف وبتجربته. ويمكن العثور على دليل عن ذلك في مصادر مختلفة، بما في ذلك سيرة كاسترو الذاتية، حسب الباحثة، حيث يروي كاسترو في سيرته الذاتية كيف قرأ بعناية تجربة معركة أنوال سنة 1921، وأوردت الباحثة مايلي بهذا الصدد:

“في عشرينيات القرن الماضي، شارك ‘فرانكو’ في حرب استعمارية بالمغرب، تكبدت قواته خسائر عسكرية هائلة في معركة أنوال ( 1921)، وفاقت خسائر الإسبان 3000 رجل. لقد درست هذه المعركة بتفصيل”. انتهى الاقتباس.

فبالإضافة إلى كل ما كتب حول ثورة عبد الكريم، يبقى العنصر الرئيسي في نقل تكتيكات “حرب العصابات” من تجربة الريف إلى الثورة الكوبية هو الكولونيل الكوبي ‘ألبرتو بايو’ الذي سافر في نهاية المطاف عبر العالم كمدرب عسكري، بعد مشاركته في حرب الريف إلى جانب إسبانيا. بل قبل الثورة الكوبية قام بتدريب مقاتلي ‘ساندينو’ في نيكاراغوا. لكن على عكس نيكاراغوا ، كانت التكتيكات المطبقة في كوبا مستوحاة بشكل واضح من ثورة الريف، تقول الباحثة، ويتجلى ذلك، على سبيل المثال، في الطريقة التي نظم بها ‘تشي’ الدفاع في منطقة Sierra Maestra الجبلية بكوبا؛ بحيث أن حفنة من المقاتلين في الجبال يواجهون جيش دولة أكبر بكثير منهم عددا وعدة.

يمكن مقارنة ذلك، باستراتيجية الريفيين تجاه الجيش الإسباني للجنرال ‘سانخورخو’ في أنوال وجبل العروي، حسب الباحثة. وتقصد الباحثة هنا حرب أنوال التي خاضها عبد الكريم بعدد قليل من المقاتلين الذين لا يتعدى عددهم  بعض المئات مقابل جيش إسباني مسلح ومنظم يقوده الجنرال ‘سيلفيستري’. فبمنطقة أعروي تمت محاصرة الثكنة الإسبانية واستسلام كل الجنود المتواجدين داخلها ومن بينهم الجنرال ” نبارو” بنفس الطريقة، تقول الباحثة. نفس الشيئ حاول ‘تشي’ تطبيقه في كوبا من خلال محاصرته الثكنات اعتمادا على مجموعات صغيرة وبدون إطلاق الرصاص، استنادا إلى ابتكارات وابداعات حرب العصابات الريفية؛ كالكمائن ومحاصرة الثكنات – حسب الكاتبة- خاصة وأن التضاريس الطبيعية ( الجبال) في منطقة الريف مماثلة لمنطقة Sierra في كوبا، فيمكن للمسلحين، المختبئين في الجبال، استهداف الجنود بسهولة مع مراقبة جميع الممرات.

شارك الكولونيل ‘بايو’ في الحرب بالريف بجانب إسبانيا كمجند في الجيش الإسباني، هناك أعجب ببسالة مقاتلي عبد الكريم لدرجة أنه درسها بدقة، تقول الباحثة.

شارك ‘بايو’ كذلك، لا حقا، بتجربته في الحرب الأهلية الإسبانية بجانب الجمهوريين ضد الانقلابيين بزعامة ‘فرانكو’ في عام 1936. فقد كان مناهضًا شرسا للفاشية وقاتل لعدة أشهر في صفوف الجمهوريين، لكن عندما تم تجاهل خطته في تحرير مدريد ومناطق أخرى عن طريق حرب العصابات، انتقل ‘بايو’ إلى أمريكا اللاتينية كمدرب طيران وخبير حرب العصابات، حسب الباحثة. حول اختلافات في وجهات النظر بين بايو وقيادة الجبهة الشعبية يتحدث الكاتب الكتلاني بتفصيل أكثر.

لقاء ‘بايو’ مع ‘كاسترو’ و’تشي’:

بمجرد معرفة ‘كاسترو’ بوجود ‘ألبيرتو بايو’ بالمكسيك سارع الى اللقاء به. حدث ذلك لأول مرة سنة 1952. ‘كاسترو’ و’تشي’ أبديا استعدادهما كشباب ثائر للاستفادة من تجارب الكولونيل ‘بايو’ الذي كان يبلغ من العمر آنذاك 64 سنة، وحتى يربط الممارسة بالتثقيف الذاتي ألف كتابا أو دليلا حول حرب العصابات سنة 1955 تحت عنوان “150 سؤالا حول حرب العصابات”.  على شكل دليل لحرب ثورية في 150 حالة. يعالج من خلاله أغلب الحالات التي يمكن أن يصادفها المقاتل في الميدان. كمثال على ذلك؛ الحالة 26: “كيف يمكن اقتحام مركز للشرطة أو ثكنة؟”، حسب الباحثة.

إن أغلب الحالات التي تم تناولها في “الدليل” والخطط العسكرية التكتيكية تذكرنا بقوة بطريقة خوض عبد الكريم  لحرب الريف (استلهام)، حسب الباحثة دائما، فمن بين التكتيكات المعروفة عن عبد الكريم نجد مثلا: الهجوم…التراجع… ثم الانتظار. وتتكامل هذه الخطة مع وجود قناصة ماهرين ضمن مقاتلي عبد الكريم وقيادة ميدانية صلبة وشجاعة، والتوفر على الاستخبارات. هذا ما يجعل العدو لا ينعم بالراحة ليل نهار، حسب الباحثة. هذه النقطة أشار اليها البروفيسور بيلفور بإسهاب في كتابه ” العناق المميت” ( الفصل الثامن)، فبسبب اشتداد القتال من طرف مقاتلي عبد الكريم غير المرئيين اضطر العديد من مجندي اللفيف الإسباني والفرنسي الهروب من ميدان المعارك أو الإستسلام أو الإنضمام إلى عبد الكريم وخاصة مع ‘مطلع 1923 وتحرير الشاون سنة 1924’، حسب بلفور.

في عام 1963 وصف تشي أسلوبه في حرب العصابات: “إضرب واهرب ..انتظر ..راقب .. ثم إضرب مرة أخرى”، بأنه أسلوب مستوحى من تجربة مقاتلي عبد الكريم، حسب نفس الباحثة، استنادا الى كتابات ومذكرات تشي وكاسترو.

‘بايو’ في حرب الريف كمجند ضمن اللفيف الإسباني:

يصف الكاتب الكتلاني Xavier Montanyà  “بايو” بالرجل السلطوي والشجاع، حصل على لقب طيار سنة 1915 بيد أنه سيتم إعفاءه من الطيران لاحقا بسبب سلوك غير مرغوب فيه. سيدمج ضمن اللفيف الاسباني ليدفع به في أتون حرب الريف كقائد حامية، حيث أصيب أربع مرات إصابات بليغة. لقد فوجئ “بايو” بتقنيات متطورة لإدارة حرب العصابات لدى مقاتلي عبد الكريم اثناء حرب الريف، والتي قادتهم إلى النصر في معارك حاسمة، أبرزها معركة أنوال عام 1921 ضد جيش تقليدي متفوق للغاية. ومنهم تعلم الكولونيل ‘بايو’ نظرية حرب العصابات و فنونها، والتي سينقل تقنياتها المبهرة لتلاميذه في أمريكا اللاتينية، حسب الباحث، ومن بين قواعدها: كسر الدائرة، التخريب، الاستطلاع، الهجمات  الليلية والمفاجئة، “اللدغة والهروب” مثل النحل كما كان يصفها ‘بايو’، وهكذا إلى أن أصبح خبيرا في ما سمي بالحرب غير المتكافئة. انتهى ‘بايو’ مقتنعًا بأن القتال بذكاء اعتمادا على مجموعات صغيرة  وبدعم الفلاحين، يجعل من رجال العمليات القتالية مجموعات لا تقهر. حسب الكاتب الكتلاني.

 ‘بايو’  ضمن الجمهوريين في الحرب الأهلية الإسبانية:

في 18 يوليو 1936، تم القبض على “بايو” ببرشلونة في بداية انقلاب القوميين على الجمهوريين، لكن مع حسم الصراع لصالح الجمهوريين في منطقة كتالوتيا في بدايته، استعاد حريته ومكانه في الطيران، لم يتردد في ذلك الوقت من اعلان انضمامه الى الحكومة المنتخبة ديمقراطيا.

في أوائل غشت 1936، حصل على تفويض من رئيس الحكومة الكاتلانية Generalitat La Lluís Company، لاستعادة جزر البليار، التي سقطت في أيدي المتمردين ( قوات فرانكو) في اواسط يوليوز 1936 بعد إعلان فرانكو عن انقلاب عسكري في 17 و18 يوليوز من نفس السنة في جزر الخالدات وتطوان وسبتة. فباستثناء جزيرة مايوركا، استعاد ‘بايو’ ورجاله جزيرتي ‘فورمينتيرا’ و’إيبيزا’، مع تحرير الكاتب “رافائيل ألبيرتي’ و’ماريا تيريزا ليون’، الذين كانا معتقلين في جزيرة “إيبيزا”، وذلك من خلال اعتماد اساليب حرب العصابات التي تعلمها في حرب الريف, حسب الكاتب الكتلاني.

لكن الإنزال في جزيرة “مايوركا” من طرف ‘بايو’ في يوم  16 أغسطس 1936 لم يكن حسب ما تم التخطيط له. فوجد “بايو” نفسه في ظروف متدنية لأنه لم يحصل على الدعم والإمداد الذي طلبه من الجمهوريين، حسب الكاتب. بالإضافة إلى ذلك، فقائد فيلق فرانكو، Joan March لم يتردد في استعمال طيران الفاشية الإيطالية ضد قوات “بايو”، فلم يتمكن هذا الأخير من ردع الانقلابيين، حسب الكاتب. فنظرا لتأخر الإمدادات والعتاد لم يعد أمام ‘بايو’ سوى خيار الإنسحاب بعد قتال استمر أكثر من ثلاثة اسابيع فوق جزيرة مايوركا. مع العلم أن كل المؤشرات كانت ترجح الكفة لصالح ‘بايو’. وهذا بشهادة احد المقاتلين (غابرييل فوستر مايان) في صفوف قوات فرانكو، الذي دون يوميات القتال على هذه الجزيرة، والتي تم نشرها لا حقا في كتاب تحت عنوان ” إنزال ‘بايو’ في  مايوركا”. يقول هذا المقاتل حول إنزال ‘بايو’ في ‘مايوركا’ لو أن هذا الأخير طبق فعلا تكتيك حرب العصابات، كما حصل مع الجزر الأخرى، لاكتسح الجزيرة في رمشة عين، خاصة أنه كان يحاصرها من كل الجهات تقريبا، لكن انشغاله بحفر الخنادق اعطى الفرصة لقوات فرانكو لتنظيم دفاعاتها واستدعاء طائرات موسوليني من أجل حسم الموقف.

بعد فشل تحرير جزيرة مايوركا سيحال ببرشلونة على مجلس الحرب الذي كان قاسيا معه،  حيث تم اتهامه من قبل الرئيس البارز للجنة الميليشيات التابعة ‘للفوضوي’ Joan Garcia Oliver بالتهاون والخيانة. كان على وشك الحكم عليه بالإعدام ، ولكن تم الإفراج عنه في الأخير.

تم تعيين “بايو” من جديد في مهام سرية ومراقبة تطور الصراع لمساعدة وزير البحرية والجوية في حكومة الجمهوريين، Indalecio Prieto. وتحت شعار الحرب ستكون من نصيب ‘المحاربين’ ( يقصد رجال العصابات) أقام معسكرات تداريب لإنشاء فرق العمليات الخاصة وإنشاء سرب خاص من الطائرات ( كاميكاز) لمهاجمة مراكز القيادة المتنقلة لضباط العدو. لكن وزير القوات البحرية والجوية Prieto رفض تماما استخدام هذه التقنيات التي اعتبرها ‘عملا إرهابيا’، حسب الكاتب.

عودة ‘بايو’ إلى المكسيك ولقاءه بقادة الثورة الكوبية:

بعد خلافه حول سير المعارك وخطة الحرب مع قيادة الجبهة الشعبية بإسبانيا سيرجع ‘بايو’ إلى منفاه بالمكسيك والحرب الاهلية بإسبانيا لم تضع أوزارها بعد. لم يستسلم لمجرد خسارة حرب بل بدأ بحبك ‘مؤامرات’ سرية لفرانكو من خلال تدريب شباب أكفاء، مناهضين له وللفاشية، في فن حرب العصابات في منطقة بحر الكاريبي، حسب الكاتب. من بين هؤلاء الشباب كاسترو وتشي وكاميلو وراؤول. كان طلبهم له هو أن يساعدهم في اكتساب تقنيات حرب العصابات من أجل تحرير كوبا. قبل ‘بايو’ العرض وكله ثقة بنجاح مهمتهم. مع إبداء أسفه في إهمال خطته من طرف الجمهوريين بإسبانيا أثناء الحرب الأهلية مما أدى إلى سقوط إسبانيا في يد الفاشية في الاخير. لخص فكرته على الشكل التالي: “أردت تطبيقه (حرب العصابات) في إسبانيا خلال الحرب الأهلية وتم تجاهله […] لو تم الاستماع إلي ، لكانت الأحداث مختلفة”. صحة هذا الكلام يؤكده بشكل قاطع خبير التاريخ العسكري الاسباني “أنتوني بيفور”، بحيث يرى أنه لو تم الدمج بين الحرب التقليدية وحرب العصابات من طرف قيادة الجمهوريين لكانت الطريقة الأكثر كفاءة والأقل خسارة في مقاومة فرانكو”، من كتاب إنزال بايو في مايوركا.

بعد نجاح الثورة الكوبية وإسقاط نظام العمالة ‘باتيستا’، سيتم استقبال ‘بايو’ في ‘هافانا’ بكوبا كبطل قومي مع ترقيته من طرف الرئيس كاسترو الى رتبة جنرال.

رحيل ‘بايو’ وجنازة رسمية بحجم رجل دولة:

قال لأصدقائه الكوبيين بسخرية وهو على فراش الموت: “لولا التهاب المفاصل، السكري، الجلطتين، العين الزجاجية والجروح  بالرصاص التي أثخنت جسدي ( 14 إصابة)، لكنت مثل الأسد”. توفي ‘بايو’ في منزله بهفانا في 4 غشت 1967. نظم له كاسترو جنازة مهيبة تكريما له تليق بمستوى جنرال. كما تم وضع تمثال نصفي من الحجر بجانب قبره وفوقه بضع كلمات من تلميذه تشي خلدت شخصيته. تلميذه المفضل تشي كان حينها في بوليفيا. و قال في حقه :” أستطيع أن أقول ان جنرال بايو أستاذي”.

خاتمة:

إن النجاح الباهر لثورة الريف أثبت أن المهارات التكتيكية و وجود قيادة شجاعة، إلى جانب البيئة والتضاريس الطبيعية التي تخاض فوقها الحرب يمكن أن تقود إلى نصر على جيش أكثر عددا وعدة. مما جعل من هذه التجربة محط  دراسة واهتمام من طرف العديد من الحركات الثورية المسلحة عبر العالم ( الصين، كوبا، فيتنام، فلسطين، ليبيا، الجزائر…). بل ليس من الصدف أن يصرح تشي غيفارا أثناء زيارته لعبد الكريم بالقاهرة سنة 1959 بما مفاده:” لقد أتيت لزياتك خصيصا لأتعلم منك أيها الأمير”. هذا التصريح يوحي كما لو أن ‘تشي’ جاء للبحث عن معلمه الحقيقي/” المجهول”. فقط لم يتم تغطية وتوثيق هذا اللقاء التاريخي. بل حتى الصور التي تم أخذها لهما بالقاهرة لم تنشر وليس لها أثر.

فلو نشرت هذه الصور، مباشرة بعد نجاح الثورة الكوبية طبعا، لصار حدثا عالميا كبيرا. هذا ما دفع الباحثة الألمانية لطرح السؤال إن حدث هذا اللقاء فعلا.

مسألة انتقال تجربة عبد الكريم إلى أمريكا الجنوبية عبر الكوبي الكولونيل “ألبيرتو بايو” تناولتها كتابات وأبحاث أخرى وليس فقط الباحثة الالمانية والكاتب الكتلاني. جزء منها أشارت إليها الباحثة الالمانية نفسها، والجزء الاخر صادفته وأنا أبحث في هذه العلاقة.

بالاضافة الى دوره في تطوير حرب العصابات، وخاصة تجربته في اقتحام الجزر من بينها جزيرة كوبا أصدر ‘بايو’ ما يقارب 23 كتابا حول القضايا السياسية والأدبية والشعر والتجارب الثورية من بينه كتاب تحت عنوان: ‘مساهمتي في الثورة الكوبية’ صدر سنة 1960.

ملحوظة: هذه المحاولة هي جزء من بحث مطول حول دور ‘بايو’ ومقاتلين أجانب أخرين في الدفاع وإغناء تجربة عبد الكريم.

حقوقي ومهتم بتاريخ الريف..

عن موقع

"لكم"



رسالة محمد بن عبد الكريم الخطابي

رسالة محمد بن عبد الكريم الخطابي