الأحد، 6 ديسمبر 2020

محمد بن عبد الكريم الخطابي… اعتراف دولي مقابل تجاهل محلي

 محمد بن عبد الكريم الخطابي… اعتراف دولي مقابل تجاهل محلي

حسيمة سيتي6 فبراير 2016

في الذكرى الثالثة و الخمسون لرحيل اسد الريف محمد بن عبد الكريم الخطابي ، سننشر سيرة هذا الرجل الذي ظلمه التاريخ و الجغرافيا، سنتطرق فيها لجوانب خفية من سيرة هذا الرجل تجاهلها الاعلام الرسمي و التاريخ الذي يدرس في المدارس و الجامعات في محاولة الى اعادة الاعتبار الى مفخرة الريف الذي اصبح ايقونة و رمزا لكل الشعوب التواقة الى الحرية و محاربة المستعمر عبر العالم.

أمير الريف .. محمد بن عبد الكريم الخطابي

رجلٌ ضئيل الجسد قصير القامة بسيط الملبس، خافت الصوت لا تكاد تسمع حديثه، حييّ لا يكاد ينظر فيك كثيرًا، هاديء الملامح، عزيز النفس متواضعًا، نظراته حادة بشكل غريب حين ينظر، أحبه حتى الفرنسيون والإسبان الذين قاتلوه، كان يحبّ بناته لدرجة أنهنّ يحتمين به من أمّهن، و حين كان في مصر (منفيًا) كان من حبه لهنّ يرفض أن يزوّجهنّ للرجال المصريين؛ يقول أخشى أن أعود للمغرب و لسنَ معي، لكن إذا متّ فليتزوجْنَ من أردْن، و كان و هو في المنفى تُهدى له السيارات و القصور و الهدايا من رؤساء الدول سواء من الملك فاروق الذي استضافه أو عبد الناصر بعد ذلك أو الملك عبد العزيز،، فيرفض أخذ أي شيء منها، ويرفض استخدام أي شيء من هذه الهدايا، أحب البساطة و عاشها ما استطاع.

لكن هذا الرجل بكل الهدوء الذي فيه، قاد أحد أشرس و أعجب و أطول حركات مقاومة الاستعمار في عصرنا،  بملحمة عنيفة بدأت أول أمرها بثمانِ عشرة بندقية، دوّخ إسبانيا و فرنسا، حتى اجتمعت عليه عدة دول كبرى من أجل القضاء عليه.


إنّ المورو -كلمة يقصد بها سكان شمال أفريقية و شمال المغرب – حين يُقتل أخاه في المعركة، لا تراوده فكرة الهرب، بل أول ما يفعله أن يأخذ مكان أخيه و يقاتل .. يقاتل! كذا قال أحد الضباط الإسبان عن رجال الريف المغربي و مقاومتهم.

“إنّ السلاح موجود عند العدو و علينا أن نسعى لأخذه” هكذا كان يقول الخطابي لرجاله و جنوده و لمن يسأله: من أين ستحصل على الأسلحة لتقاوم؟ لم يكن كاذبًا في جوابه و لا مبالغًا حتى، فطول فترة نضاله التي استمرت خمس سنين ضد الإسبان و الفرنسيين، لم يحصل على قطعة سلاح من الخارج كدعم له، بل كان يحصل عليها من عدوه فعلاً!

و للحصول على الذخيرة كان الرجال يدهنون أجسادهم بالزيت شبه عراة، و ينقضّون على مخازن العدوّ و يسلبون ما فيها، و لقد كانت كمية الذخائر التي غنموها بهذه الطريقة من الكثرة بحيث لم تجرؤ تقارير العدو أن تذكرها.

كل طلقة برجل، لديك رصاصة  تقتل بها عدوًا .. لديك رصاصتان تقتل اثنين .. و عشرون طلقة بعشرين ! هكذا رجاله يحسِبون و يفعلون و بشيء من الدقة و الحظ ربما أصابوا رجلين برصاصة!

قال الجنرال بيتان -أكبر قادة الجيش الفرنسي في الحرب العالمية الأولى- عن الخطابي ورجاله: إنهم أقوى عدوّ واجهناه!

و كان أحد القادة الإسبان -الصبنيول كما ينطقها أهل المغرب حينها- و هو بريمو دي ريفيرا يصف الريف و صعوبة القتال فيه و خفة رجاله في القتال وسرعتهم  بأنه: جبح النحل -بيت النحل/الخلية- لن يتوقف عن لدغك.

و قال أحد القادة الآخرين عن معارك المغرب هذه يصف شراستها: كل شبر هنا .. كلفنا معركة !

اشتهر نمط معارك الخطابي الخاطفة (حرب العصابات) حتى أنه عندما التقى وفد فلسطيني ماو تسي تونغ أب الصين الحديثة، و رغبوا في معرفة رؤيته للمقاومة قال لهم: لماذا تبحثون عن رؤيتي؟ أنا تعلمتها من الخطابي!

و حينما زار تشي جيفارا مصر في عهد عبد الناصر، طلب جيفارا مقابلة الخطابي و الجلوس معه، وجلسوا جلسة مطولة، كانت شهرة معاركه و سياسيته العسكرية ثورية في زمنها من الشهرة بحيث يقال أنها تُدرّس اليوم في حرب العصابات في الجامعات، كحرب أنوال إحدى عجائب الحروب الحديثة!

هذا هو محمد بن عبد الكريم الخطابي السياسيّ المناضل.

(مقدمة تاريخية)

وقع المغرب تحت الوصاية –مؤتمر الجزيرة الخضراء– في عام 1324هـ الذي اجتمع فيه الوحوش الكبار لتقرير مصير المستعمرة المغربية، و تقرر وضع المغرب تحت الوصاية بتقسيمها بين فرنسا و إسبانيا بحيث يتضمن هذا بقاء السلطان حينها مولاي عبد العزيز بن الحسن العلوي كحاكم صوري للمغرب، وبدأت فرنسا و إسبانيا في امتصاص كل خيرات المغرب مقابل حماية السلطان و الحفاظ على شرعيته الضعيفة و تقديم مساعدات له – من المضحك أن الميزانية التي أعطيت للقوات الفرنسية داخل المغرب تفوق بثلاثين ضعف المساعدات التي قدمت للسلطان نفسه- و كان المغرب حينها -كحال مجمل البلاد العربية-  في أسوأ أحواله من حيث الفقر و التأخر الحضاري و ضعف الشرعية السياسية لحاكم البلد و الارتهان المصيري للمستعمر.

لم يرضَ الكثير من الأحرار بهذه الاتفاقية خصوصًا منطقة الريف في المغرب ذات الطابع الديني و القبلي، وخرج منها عدة حركات مقاومة غاضبة، وكان الفرنسيون يتدخلون عسكريًا لقمع هذه الحركات النضالية استنادًا على الاتفاقية المذكورة، و من السخرية أن أحاديث الصحف الفرنسية  تلك الفترة كانت تسمي عمليات القوات الفرنسية بكل عنفها و طول مدتها في المغرب بـ (عمليات محاولة التهدئة) إذ إنها كانت تتدخل باسم الدفاع عن شرعية السلطان حينها!

و كانت فرنسا و إسبانيا تستخدم كل الوسائل لإخضاع هذه القبائل، فكانوا يستخدمون القبائل ضد بعضها  بالمال و العنف و الدين و الإذلال، و كان المارشال هويبر ليوتي -المارشال ليوطي كما اشتهر اسمه- يستغل عامل التدين المنتشر بين القبائل، و كان يعتبر نفسه خادم السلطان الأول، و كذلك كانوا  يذلون القبائل حين تستسلم، فيثقلون كاهلها بالتعويضات المالية و العينية، بل و يأخذون رهائن من شباب القبيلة يعملون لديهم، و كانوا يثيرون القبائل على بعضها، و يتسببون بمعارك دامية بينهم -زيادة على ما هو موجود أصلا- كي يخففوا من ثورة القبائل – ولو منفردة و من حين إلى حين- على قواتهم!

الأسوأ أن السلطان كان يجبر القبائل على الانصياع لبعض الاتفاقيات المذلة لهم بينه و بين الإسبان أو الفرنسيين، كل هذا و غيره، جعل منطقة الريف في حالة غليان، فكانت القبائل تغلي و لكن بلا قِدر كما وصف أحدهم، في هذه الأوضاع الممزقة و الغاضبة و المتشابكة كانت نشأة محمد الخطابي.

(النضال من فكرة إلى طلقة)

  بدأ الرجل أول أمره موظفًا عند الإسبان، لم تكن في باله فكرة المقاومة المسلحة، بل إن هذه الفكرة  تشكلت ببطء في ذهنه و على مدى سنين أيضًا، فقد تنقل في مبدأ أمره من موظف للإسبان مأمون الجانب و مغمورًا  مدة من الزمن إلى معتقل لديهم إلى مفاوض سياسي داهية، ثم آخر الأمر  إلى ندّ و مناضل مرعب.


                                                 صورة من الصحيفة التي كان يعمل فيها الخطابي ككاتب و محرر

كان أبوه سيد قبيلة بني ورياغل أحد أكبر قبائل منطقة الريف التي يتواجد فيها قرابة ٥٨ قبيلة، و كان قد تأكد آخر عمره -بعد عمر في التعامل مع الإسبان بل و خدمتهم- أن لا نوايا لدى القوم سوى امتصاص خيرات الريف دون عمل أي شيء له، فبدأ في تغيير علاقته معهم، بمطاولة و هدوء و مكر، ففي لحظة ما بدأ الإسبان يشكون في صدق نوايا الخطابي الأب، حيث قطع عادته في زيارة مدينة مليلية حيث المكتب المركزي لحكومة المستعمر، ثم بدأ في رفض طلبات الإسبان بمحاولة تهدئة القبائل الغاضبة، فبدأ الإسبان  باستجواب  الخطابي الابن الذي كان يعمل صحفيا في مليلية، و كانت أجوبته واضحة و سياسية في لغتها، في أن على أسبانيا أن تتعاون مع الريف لكن لا تطأ قدمها هذا الريف، و أن الريف سيتعاون مع أسبانيا و لكن لن يكون خادمًا لها، و كنوع من الضغط على الأب قرروا سجن الابن.

حاول محمد الهرب، و بعد ترتيب الخطة لذلك، ربط نفسه بحبل و قفز من سور السجن و لكن لسوء حظه كان الحبل  أضعف من رغبته فانقطع به، فسقط في منطقة مليئة بالشظايا، و حينما جاء الذين اتفق معهم على حمله رأوا جثة مغطاة بالدم و عاجزة عن القيام فقربوه من حراس السجن يأسًا من أنه سيعيش، فأخذه الحرّاس و خضع للعلاج مدة طويلة كان فيها مستلقيًا لا يتحرك أبدًا، و بقيت به عرجة من تلك السقطة بقية حياته.


                                    الخطابي أثناء عمله كمترجم للإسبان

و مع مرور الأيام و رؤية صنائع الإسبان في القبائل التي تقاوم، و فرحهم بمقتل محمد أمزيان أحد قادة الثورة ضد الاستعمار الإسباني، أثر ذلك فيه كثيرًا، و رأى كيف يكذب الاستعمار في كل وعوده للمغرب و الريف بالتحديث و التنمية، و بعد محاولات عديدة و الوقوف في موقف حرِج بين القبائل و الإسبان رجاء أن يصدق الإسبان في وعودهم و أن يتوقفوا عن التهام الريف دون مقابل بتنميته وتحديثه و عبر أحداث طويلة و غريبة له و لأبيه، مات أبوه مسمومًا، و وجد الخطابي الابن نفسه في فوهة المدفع، و وجد أن القتال هو الوسيلة الوحيدة للحوار.

(القتال)

بعد أن قطع العلاقات مع الإسبان، بدأ في تجميع القبائل ضدهم و بدأت المواجهات العسكرية بينه و بين الإسبان، و كان من أكثر المعارك صيتًا و أثرًا حتى على المستوى الدولي هي معركة (أنوال 1339هـ) لقد كانت هذه المعركة أحد أعجب معارك العصر الحديث فقد كانت مواجهة بين جيش منظم بأحدث الأسلحة وعددهم قرابة الثلاثين ألف مقاتل، و بين حركة مقاومة بسيطة التسليح و عددها قرابة ثلاثة آلاف مقاتل غير مدرّب تدريبًا حديثًا -اعتقد الإسبان أن القوات الريفية تتجاوز العشرة آلاف لسرعة حركة الريفين- و مع ذلك مُني الإسبان بأكبر هزيمة في تاريخهم، حتى إن المصادر الفرنسية و العربية تتحدث عن المعركة تحت اسم (معركة أنوال) بينما المصادر الإسبانية و إلى اليوم تسميها (كارثة أنوال).

استمرت هذه المعركة مدة شهرين و زيادة، و قد بدأت باحتلال مفرزة أسبانية لمنطقة جبلية  ففاجئهم رجال الريف و حلقوهم عن الجبل حَلقًا، و هرب من استطاع، و عند بلوغ أخبار الهزيمة للجنرال سيلفيستري بدأ التحضير للمعركة و قال الجنرال بغرور أنه سيشرب الشاي المغربي في بيت محمد بن عبد الكريم الخطابي.

و استطاع الخطابي بالدهاء و ومدى جهوزية رجاله الجسدية من السرعة و تحمل العطش -حيث كان الجندي يرابط في خندقه منفردًا مدة يومين دون أكل أو شرب-  و برشوة الجنود الإسبان لتسريب المعلومات- من أن يحاصر الجيش الإسباني حصارًا محكمًا و أن يمنع عنهم كافة الإمدادات، و مع أن الطائرات كانت تأتي و تقصف مواقع قوات الخطابي قصفًا شديدًا  محاولة فكّ الحصار، و لكن قوات الخطابي لم تبارح مكانها، و كانت تستمر المعارك أحيانًا قرابة عشر ساعات، لم يستطع فيها الجيش الإسباني أن يفك الحصار عن نفسه، و زاد الخطابي من حصاره حين  سيطر على البئر الوحيد الموجود في المنطقة و منع الإسبان من الوصول له، فعطش الإسبان عطشًا شديدًا ، و بدل من أن يشرب سلفستري الشاي في بيت الخطابي شرب الإسبان البول من شدة العطش بعد أن صاروا يضعون فيه السكر، كما تقول المصادر الإسبانية.

و  كانت حصيلة المعركة أن انتحر سلفستري في خيمته و هرب الجنود الإسبان، و تمكن الريفيون خلال 72 يومًا من استرجاع ما احتله الإسبان منذ أكثر من 11 سنة، وتكبدوا خسائر فادحة في الأرواح والعتاد،  أكثر من 10000  بين قتيل وجريح، بل بعض المصادر تقول أن القتلى فقط كانوا 19 ألفًا و الجرحى 4300! وأسرت قوات الخطابي  أكثر من 1100 إسباني، وغنموا آلاف المدافع و الرشاشات و البنادق و عشرات الشاحنات و السيارات، و الكثير من  المواد الغذائية والأدوية و الخيام، يقول الخطابي (لقد أعطانا الإسبان في ليلة واحدة كل ما نحتاج إليه للقيام بحرب كبيرة).

و كانت هزيمة الإسبان في أنوال لها أثر كبير في الثورة الريفية و على الإسبانيين أنفسهم و تقول بعض المصادر أن هزيمة الإسبان في أنوال كانت وراء التغيير الذي طرأ على النظام السياسي الإسباني من ملكية إلى جمهورية عسكرية بقيادة بريمو دي ريفيرا سنة 1341هـ وسببا في اندلاع الحرب الأهلية الطاحنة سنة 1355هـ و كانت الصحف الإسبانية تتحدث أن المغرب مقبرة الشباب الإسباني، و ذاع صيت الخطابي كثيرًا بعد هذه المعركة، و اجتمعت قبائل الريف تحت إمرته و نصّبوه أميرًا على الريف.

و سأعرض هنا أهم ملامح شخصية الخطابي المناضل التي لاحظتها في سيرته مضمنّا الشواهد باختصار قدر المستطاع، ثم أكتب الفصل الأخير من حياته رحمه الله.

من أول ما تلاحظه في الرجل هو الخلفية الشرعية و الحديثة فقد تلقى الخطابي تعليمًا شرعيًا أصيلًا في جامعة القرويين بفاس، و كان سليل أسرة علم و قضاء، و احتكّ كثيرًا بالإسبان في شبابه بل و كانت له علاقات واسعة برجال المخابرات الإسبان أول أمره حيث كان مترجما في مليلية، و كان كذلك محررًا في صحيفة (ال تليغراما ديل ريف) في مدينية مليلية أيضًا، و كان قاضيًا فيها، و كان الإسبان يحبون الحديث معه، و درّس الكثير من الجنود الإسبان اللغة الأمازيغية، و من تلامذته الجنرال سيلفيستري المنتحر  إثر هزيمة أنوال، مما يعني أن الخطابي درّس سلفستري مرتين، أحد الدرْسين كلف سلفستري حياته، و كانت شدة اختلاط الخطابي بالإسبان أعطته اطلاعًا و اسعًا على عملهم و تفكيرهم و أدواتهم و رؤاهم و استفاد كثيرًا من ذلك في تخطيط معاركه و تدريب جنوده تدريبًا حديثًا قدر المستطاع، و كانت ميزة لا توجد في قادة القبائل آنذاك.


                              أثناء عمل الخطابي في مليلية كمعلم

هذه المعرفة و هذا الوعي منحه رؤية واقعية بالقضية في التأسيس و تسيير الناس، فالخطابي محمد  -مولاي موحنّد كما يسميه الأمازيغ الذي هو منهم- ليس أول من بدأ مقاومة المستعمر، و لكن مقاومته كانت أذكى و أقوى مرحلة في تاريخ طرد المستعمر من المغرب من 1339هـ  إلى 1345هـ فلم يكن الخطابي مجرد جندي مخلص -هذا ما يحدث حين تكون مؤمنًا فقط بقضية ما- بل كان مع إيمانه بالقضية في غاية الوعي بها و بحدودها، و هذا ما كسى نضاله -والنضال بطبيعته جامح وعاطفي- منطقًا و عقلًا و طريقًا واضحا، كان يعلم  أنه لابد للمغرب من الاستعانة بدولة أوروبية و لا يمكن للمغرب الفقير الممزق الزراعي أن يتطور إلا بمعونة دولة أوروبية، و كان يرى أن فرنسا قوية و لكنها ستلتهم المغرب، و لكن أسبانيا من الممكن أن تساعد المغرب و هي أضعف من أن تبتلعه! فحاول قدر المستطاع هو و أبوه أن يدفع الإسبان لتحديث الريف و إصلاحه مقابل منافع و مميزات يحصل عليها الإسبان، و تصالح معهم لدرجة الحلف – و هذا ما جعل سيرته الأولى في العلاقة مع الإسبان محط تحليل و جدل كبير- و كان يلمّح في بعض رسائله إلى ضعف وعي قومه بحقيقة الوضع و عدم فهمهم السليم لموازين القوى،و أن مجرد المقاومة المسلحة هي الفكرة المسيطرة عليهم، و لكن فشلت كل محاولاته أن تكون هناك علاقة تجارية مفيدة للطرفين بين الإسبان و الريف فاتجه للمقاومة المسلحة، و حين فعل ذلك لم تكن مقاومته ثأرية فقط، بل كانت حركة بناء تستخدم العنف حين لا يوجد حل آخر، كان لديه تصور واضح لما ينبغي فعله و حدود واقعه و قدرته، والأهم كانت لديه رؤية لحالة ما بعد الصراع (الدولة/الوطن) فكان مثلا يحدث أنصاره دائما عن فكرة التحرير و إقامة دولة و ليس فقط المقاومة حتى يرحل العدو، كانت القبائل تقاتل متفرقة و لا تُعنى بغير نفسها و كانت في غاية التناحر، بل كان يقال أن الرجل الريفي لا يعتبر رجلًا إذا تزوج ولم يسبق له قتل رجلٍ واحد على الأقل، جمع الخطابي كل هذه القبائل المتناحرة و أحيا فيها خطاب الوطن، لدرجة نسي الناس ثأرهم ممن قتل آبائهم أو أبنائهم، و وضع قوانين عقوبات على من يقوم بالثأر، و سحب التقاضي من مشايخ القبائل و وضعه في أيدي قضاة شرعيين، وكانت الحركات النضالية قبله مثل حركة أحمد الريسوني تعتمد عامل القبيلة و على الأموال لضمان ولاء القبائل و دعمها العسكري، مما جعل قيمة المال يحدد مستوى الدعم، بينما الخطابي جعل قضية النضال ضد المستعمر قضية القبائل نفسها فلم تكن تحتاج إلى مال لكسب الولاء، بل كانت تبذل في سبيل هذه القضية من مالها، لقد أحدث خطابًا جديدًا نفسيًا و اجتماعيًا و سياسيًا للمنطقة، و التحم الجميع تحت راية واحدة و من بين ٥٨ قبيلة انضم للخطابي ٥٥ قبيلة منها، و كان من أجل تطمين القبائل أنه لا يسعى للتسلط كان حين تأتي القبيلة للانضمام للحركة المقاومة كان يطلب منهم أن يختاروا لهم قائدًا، و لا ينصّب هو من جهته قائدًا، و كان ذلك يشعر القبيلة بالثقة و بسلامة مقاصد الخطابي، إذ من طبيعة الناس حينها أن يطيعوا القادة المنتمين لنفس قبيلتهم بغض النظر عن أي شيء آخر، وكان يلاقي صعوبات من زعامات قطاع الطرق و شيوخ القبائل و لم يكن شديد العسف معهم على حرَجِ الموقف، بل  كان يفاوضهم على الانضواء تحت الحركة المقاومة للمستعمر، و إن فشل فاوض على الحياد! و في آخر الأمر كان يفاوض على الأقل أن تكف القبائل الرافضة للحركة أذاها فقط! و عندما انتشر السلاح بين القبائل بعد معركة أنوال شعر الناس أن السلاح ملك لهم، فقرر رسميًّا ضبطه، و من أجل أن لا يتوتر الناس من جمع السلاح وكأنه انتزاع لحق منهم للطبيعة القبلية فيهم، قرر تعويض كل من يسلم سلاحه و ثم عقوبة كل من لم يسلمه، و لكن لم يعاقب أحدًا.

و أسس في المنطقة جمهورية سماها  جمهورية الريف كان لها بنك و وزارات و عملة خاصة، و أجرى  تحديثات مدنية هائلة في الريف من شق الطرق و ربط القرى بشبكة الهواتف، و أصدر عددًا كبيرًا من القوانين و القرارات التي تساهم في حياكة نسيج متين لمجتمع حديث و ليس مجرد مجموعة قبائل قد تتناحر في أي وقت.


                                             العملة الريفية في عهد الحكومة التي أسسها الخطابي

و مع كثرة العوامل المتناقضة التي كان عليه التعامل معها و كثرة  الراغبين في الاستفادة من القضية مثل ألمانيا و الدولة العثمانية و أسبانيا و فرنسا و القبائل المضادة و السلطان المغربي الضعيف حينها، كلهم كانوا يرغبون في الدخول بطريقة أو بأخرى في  قضية الريف، مع كل ذلك كان الخطابي يمتلكقدرة عالية على التوزان النفسي و هذا تجده في ناحيتين:

  • التوزان بين الإيمان بالقضية و الانخراط في الدفاع عنها للحد الأقصى و في نفس الوقت عدم الاستفادة شخصيًا من القضية، إنها قضيته تمامًا، لكن حين تتعارض رغبته و تاريخه النضالي مع مصلحة القضية، لا يتردد في تقديم القضية على نفسه، يشبه أن تقارب قطبين أحدهما سالب و موجب أقصى مقاربة لمدة طويلة لكن دون أن يلتصقا ببعضهما، يظهر هذا في القرارات المصيرية المتخذة في ظرف نضالهما، من ناحية الاستسلام أو التراجع أو التنازل، أو ترك خيار العنف أو حتى استخدامه، مثل هذا التوزان بين الانخراط التام في الايمان و الدفاع عن قضية ما و بين اعتبارها قضيتك الشخصية و التعامل معها بناء على مصلحة سمعتك كمدافع عن القضية، ليس من السهل أبدًا القيام به، أن تنهزم أنت أو تُسجن، لكن تنتصر قضيتك،  إنه لا يبيع القضية لكنه قطعًا لن يسترزق بها، و أوضح مثال لهذه الصفة هو إلقاء السلاح في المعركة الأخيرة.
  • التوزان الثاني كان في استخدام كل و أقصى ما يمكن من أدوات الواقع لنصرة القضية دون تفجير الوضع بشكل جنوني يُفقده السيطرة  و لكن ربما يمنحه رضى الغرور، كان يقاوم دائمًا و باستمرار و في نفس الوقت كان يبذل كل الجهود السياسية لحل القضية، لم يعتمد فقط على الحل السياسي لكنه لم يفرط فيه، و مع كون الجولات و المفاوضات السياسية مملة و ثقيلة، لم يتركها و لم يترك النضال -إنها صفة تجدها بالمسطرة في علي عزت بيغوفيتش و تحرير البوسنة- زار الخطابي باريس و لندن و جنيف، و بذل أقصى جهده لكسب الرأي الدولي العام في صف قضيته لم يتجاهل تأثير القوى الكبرى و لم يعتمد عليها مطلقًا، و كان بعد كل معركة يتوسع فيها يسرب متعمدًا للفرنسيين أنه يريد الهدنة لا القتال، رغبة منه في تثبيت ما كسبه و تحصينه و أن لا يجتمع عليه الفرنسيين و الإسبان، و ظل ثلاث سنين و هو يحاول تحييد الفرنسيين عن المعركة، و جاءته بعض القبائل التي تقطن المنطقة التي يسيطر الفرنسيون عليها و طلبت منه أن يقبل انضمامها له و أن يفتح جبهة ضد الفرنسيين فشكر لهم صدقهم و رغبتهم، و لكنه اعتذر منهم و طلب منهم أن يجاملوا الفرنسيين هذه الفترة، لأن لا أحد مستعد الآن لمواجهة الفرنسيين، و حين طرد الإسبان إلى مليلية، رفض اقتحامها لأسباب واقعية تمامًا، فلم يكن يعرف أي شيء عن جاهزية الإسبان داخل المدينة، و خشي من الموقف الدولي الذي سيتأزم ضده جدًا، و أنه لا يملك الكفاءات اللازمة لتسيير شؤون المدينة، فربما انفلت الأمن عليه و لن يستطع السيطرة -و لو أنه ندم على عدم دخول مليلية كما اعترف في مذكراته- كان يعرف جيدًا الحد الأقصى من قدرته و يستخدمه لأقصاه كذلك، لم تدفعه عدالة قضيته للتهور، و لكن لم تمنعه ضعف قدراته من التراجع، كان يعرف أن نصف خطوة ربما تفصل بين أقصى قدرته و بين انهيار هذه القدرة، فكان يسيّر كل خططه و مقاومته محافظًا على هذه المسافة الصعبة من الواقعية.

الميزة الأخرى هي امتلاك خطاب سياسي متفوق، و هذا من  أكثر مايشدك حين تتأمل سيرة هذا الرجل، فاللغة التي كان الخطابي يخاطب فيها الإسبان في صحفهم مثلا كانت سياسية عاقلة و مثالية جدًا، كأنها خطاب أحد حماة حقوق الانسان في هذه الأيام مثلاً لقد كان يقول إنه لايكنّ للإسبان أي عداوة أو ثأر و ليس بينه و بين المواطن الإسباني أي ضغينة إنه يرحّب بالإسبان التجار و المهندسين و نحوهم، لكنه يرفض أن يتعدى أحد على أرضه بالسلاح و أنه يطمح لعلاقات حضارية و أخوية بين البلدين، قدم خطابًا لعصبة الأمم حينها وصف فيها حركة الريف بالجمهورية، لم يكن خطابه مجنونًا ينذر بالقتل و الفتوحات و التدمير، بل خطابٌ عاقلٌ و عزيز و واعي و حديث في مفرداته.

و حين تتتبع مخاطباته مع الإسبان أول أمره تجد اللغة السياسية العالية التي يعترف بها بما يريد دون أن تستطيع استخدامها ضده، يقول الرافعي واصفًا اللغة السياسية (حين يقول السياسي نعم فهو يقصد ربما، و حين يقول ربما فهو يقصد لا، و لكنه حين يقول لا، يتوقف عن كونه سياسيًا) هكذا كانت لغة الخطابي السياسية،  قال عنه أحد قضاة أسبانيا الذي حكم عليه في قضية سجنه: تظهر تصريحاته أنه لا يقول إلا ما يطيب له قوله، و كل ما طرح عليه سؤال محرج جَـرّ مخاطبه إلى عكس ما ينتظره تماما، بل إن الإسبان احتاجوا لوقت طويل للحكم على الخطابي بأنه عدو و وقعوا في حيرة من لغته و تصرفه، مما يدل على مستوى عالي من القدرة على مجاراة المكر السياسي بأدواته، ربما تخلو خطاباته من العنتريات و لكنها لا تخلو من الشجاعة.

و يقول عن نفسه و مهمة حركته (أنا لا أريد أن أكون أميرا ولا حاكما، وإنما أريد أن أكون حرًا ولا أطيق من سلب حريتي وكرامتي، لا أريدها سلطنة و لا إمارة، و لا جمهورية، و لا محمية، و إنما أريدها عدالة إجتماعية، و نظاما عادلا، يستمد روحه من تراثنا و حرية شاملة حتى نرى أين نضع أقدامنا في موكب الإنسان العاقل المنتج العامل لخير المجتمع) هذا نموذج لمقولاته المتزنة، قارن هذا بالخطابات المجنونة لحركات المقاومة اليوم و لبعض الرموز الكبار، فحين انتخب مرسي مثلا صرّح أحدهم أنها بداية طريق تحرير القدس.

ومن الصفات المشتركة بين كل المقاومين و الرموز الثورية والتي تجدها بعمق لدى الخطابي هي أنثمّة شعور عالي بالواجب و بالمبدأ فقد كان بالإمكان أن يعيش أحدهم معلمًا أو مزارعًا مكتفيًا بالقليل من المال، لكن الشعور بالواجب والمبدأ هو ما دفعهم لتغيير نمط حياتهم بالكامل لهدف و غاية، و ميزة الانطلاق من المبدأ و صعوبته في آن واحد هي: أن تصبح القضية غير قابلة للمساومة، غير قابلة لثمن! لأن المبدأ لا يتجزأ، و حين ينطلق الثائر في ثورته من نقطةٍ غير المبدأ تصبح المساومة مسألة وقت، مهما  غلى الثمن و طال الزمن، المبدأ حجرة صلبة عميقة تبني عليها قضيتك، و إن لم تكن أصيلًا ستنوء بحمل هذه الصخرة، من يدري ربما في منتصف الطريق أو عند آخر خطوة، فهذا الخطابي بعد نفيه عشرين سنة، حين استقر في مصر، عاد و عمل على تأسيس مكتب المغرب العربي في شارع سعد زغلول في القاهرة، وكان المغاربة  و غيرهم من المنفيين في زمن الاستعمار يجتمعون فيه، و كان أغلبهم من الذين طلبوا اللجوء  السياسي في مصر علاّل الفاسي والحبيب بورقيبة، وغيرهم، و بدأ في بناء خلايا عسكرية من أجل تحرير المغرب و شمال أفريقية، لم يسكن لهدوءه و كبر سنه و مرضه، كان يرى المستعمر شرًا  و كل من يعمل معه كذلك، فرفض مثلا أن يتزوج ابن ملك ليبيا السنوسي من ابنة أخيه، كان يقول أن السنوسي أحد أدوات الاستعمار،و كان يتابع و يدعم النضال الجزائري باستمرار و أرسل ابنه لألمانيا لترتيب شراء أسلحة للمقاومة، و كان يجلس مع المقاومين الجزائريين من المساء حتى طلوع الصبح، بل و كان من شروطه للعودة إلى المغرب طرد كل الفرنسيين الاستعماريين الذين ظلوا في المغرب بعد جلاء القوات الفرنسية، وكذا استبعاد المغاربة الذين تعاونوا مع فرنسا خلال فترة الاستعمار، لقد كان مبدأً و اضحًا ومستقيمًا طوال خطّ العمر.


                                                       مكتب المغرب العربي الذي تأسس من أجل فكرة تحرير شمال أفريقيا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

رسالة محمد بن عبد الكريم الخطابي

رسالة محمد بن عبد الكريم الخطابي